انضم قبل قليل ثلاثة شهداء من نفس العائلة، إلى قافلة الشهداء البررة، الذين ارتقوا بفعل العدوان
الإسرائيلي الغاشم على قطاع
غزة، والذي طُبع بروح الجنون والغباء في آنٍ معاً، كونه لا يُفرق بين صغيرٍ وكبير أو رجل وامرأة أو شجرٍ أو حجر، فالكل أمام عينه سواء، سيما وأنه لا يجد أمامه من يصدّه ويكسر أنفته من قناطير مقنطرة من القوّة والعتاد، أو الألوف المؤلّفة من الجيوش والكتائب، سوى عجول الأرض، بصدورهم العارية وبطونهم الخاوية، مدججين بأسلحة العزائم القويّة، ومعتمدين أفئدة ملأي بالعزّة والإيمان.
وإن كان المشهد عموماً يختلط فيه العز والكبرياء في شأن مواجهة العدوان بالأسى والحسرة على شهدائنا الأبرار وعلى انتهاك مقدراتنا ومقدساتنا، فإنه أيضاً يثير لدينا العند والإصرار على مواصلة المسير صوب انتزاع الحق بكامله، والنيل من المعتدين والقصاص منهم ومن أتباعهم مهما طال الزمان أو قصُر.
قد نصبر على ذلك العدوان طويلاً وبغير غضبٍ ولا وصب، بسبب قناعاتٍ لدينا راسخة، بأنّه لا محالة زاهق ولو بعد حين. لكن الذي يجرح صبرنا، ويبتّ من عضدنا، ويضعف من بأسنا، هو الحال العربي ذو المواقف السيّئة، بشأن العدوانات الصهيونية الشرسة والمتكررة ضد الفلسطينيين، باعتبارها أشد سوءاً وأكثر مرارةً من تلك العدوانات نفسها، إذ لا توجد أيّة تحرّكات عربيّة جدّية، ولا حتى مواقف جريئة وخاصةً من العدوان الإسرائيلي الجاري الآن ضد القطاع، برغم ما يرى القادة والحكّام وولاة الأمر، أمام أعينهم من قتل وسفك دماء وتدمير ممتلكات، أو ما قد يُنقل إليهم من أنباء وقصص وروايات مؤلمة من انتهاك حُرمات وممارسة ألواناً من الترهيب والتخريب، على الرغم من أن لديهم إمكانات مهمّة وقادرة في وقف العدوان ولجم إسرائيل عن مواصلة ممارساتها الاحتلالية والتسلطيّة.
حتى بعد التحذير الذي وجهه الرئيس الفلسطيني "أبومازن" من أن إسرائيل تقوم بتنفيذ جريمة إبادة جماعية ضد المدنيين الفلسطينيين، فإن جل المواقف الرسمية التي تكلّفت بالرد، لم تمس وكما في كل مرة، الجوهر المطلوب في مثل هذه الحالة العصيبة، فكل ما تم تقديمه، كان على سبيل الإدانة في الحد الأعلى، أو دعوات بإعمال العقل وضبط النفس كحدٍ أدنى، وغالباً ما تعبّر عن مواقف تبدو متطابقة من حيث دعوة المجتمع الدولي إلى التحرّك، وهي في جملتها لا تفي بالمطلوب ولا تكاد تُقنع طفلاً في الشارع الفلسطيني.
ما يزيد من الأسى هو سماحهم لأنفسهم بإطلاق نفس العبارات وبنفس النبرة، في ظل العدوان الجاري، وفي ظل تمدده إلى استهداف المدنيين العزل، بعد نفاذ مخزون الأهداف التابعة للمقاومة والمدرجة في سجلات المؤسسة الاستخبارية الصهيونية، وكأنها انتقام لِما فشلت في تحقيقه وتسجيل نجاحات كاذبة.
لقد خاضت
المقاومة بكل فصائلها، حروباً طاحنة وواجهت نشاطات عسكرية صهيونية متتابعة على مدار سنين طويلة، في ظل سكوت عربي مطبق، حيث لم نكتشف يوماً أن هناك موقفاً جدّياّ وصادقاً قامت باتخاذه جهة عربية واحدة، وحتى في حال حصوله وجدنا من يقوم بإحباطه.
ربما نجد لسكوت بعضهم مبرراً، يرفع عنهم بعضاً من الحرج، لانشغالهم بأنفسهم، أو بمواجهتهم تهديدات محتملة، أو بشأن أنهم مغسولي العقل، أو بشأن ما باليد حيلة، ولكننا لا نجد لهم رخصة في شأن تغاضيهم أو نسخهم بالمرة للقضية الفلسطينية أو بعدم اهتمامهم بقتل الفلسطينيين على مدار الوقت وكما هو حاصلٌ الآن.
وإن كان محبطاً لنا كفلسطينيين، ومؤذياً لنا في نفس الوقت، أن نرى مثل تلك المقابلات المائعة، أو تأكّدنا بأن عمليات القتل التي يقوم بها الاحتلال تتم بأسلحة أميركية يمولها الأشقاء العرب، إلاّ أنها لا تُوهن من عزيمتنا ولا تُخيفنا تماماً، ولكن الذي يُحل لدينا أشد الخوف وحتى موت الفجأة، هو ثبوت أن تكون هناك تطابقات عربية – إسرائيلية، حتى وإن كانت في شأن أو ضد فئة أو شريحة فلسطينية معينّة، سيما وأن قادة في إسرائيل أكّدوا على الملأ، بوجود تفاهمات مع جهات عربية، حول كل ما يدور– سياسياً وعسكرياً-، وأن العرب بجملتهم نسوا القضية الفلسطينية والفلسطينيين كذلك، وكان أكّد وزير الجيش الإسرائيلي "موشيه يعالون" عشية العدوان بأن في الغرف المغلقة مع شخصيات من الدول العربية، تكاد المسألة الفلسطينية لا يتمّ طرحها من الأساس، وأن هناك آراء مُريحة بشأن ضرورة تنقية القطاع من (الإرهاب).
وبالإضافة إلى اعترافات صهيونية وأمريكية مختلفة ومتتابعة وبإضافة أصواتاً - غير رسميّة - في الشرق والغرب العربيين، تنادي جهاراً نهاراً بضرورة استباحة القطاع وضرب المقاومة، فقد بدأت الهواجس بجد، تتسلل إلى قلوبنا وتفرض نفسها على أفكارنا، بأن هناك تنسيقات ثابتة مع جهات عربية، وإن كانت بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ، على اجتثاث المقاومة الفلسطينية وبالذات التي تتصدّرها حماس، تمهيداً لتصفية القضية الفلسطينية، وأن المطلوب فقط، هو صبر السكان مع مراعاة تقديم تضحيات. وفي الحالة كهذه، فإن من الواجب العمل في إطارها على أنها صحيحة، مع تثبيت أن من غير الضروري انتظار العون والمدد من آخرين، حتى من بعد سنتمترٍ واحدٍ عن الحدود. ويجدرُ بنا فقط الاعتماد على النفس طالما بقيت قلوبنا تنبض بالحياة.