الزمان: 1995.. انتهت حرب العراق مع
إيران رسميا في 1988 لكن ظلت هناك أمور معلقة وأسرى عند كل طرف. وكانت مساحات من إيران مازالت تحت سيطرة الجيش العراقي والمفاوضات متعثرة. ولكن في أغسطس 1990 فاجأ صدام الجميع بقرار الانسحاب من كامل الأراضي الإيرانية! بل وأكثر من ذلك, تسليم جميع الأسرى الإيرانيين المسجلين بدون اتفاق على خطوة مماثلة. ماذا كان صدام يفعل؟ كان يحيد إيران ويركز جهوده لعمليته القادمة: غزو الكويت...في الشهر ذاته.
الأسئلة التي سنقفز فوقها كثيرة لا تبدأ بالتساؤل عن أسباب الغزو وحقيقة الخلافات، ولا تنتهي بهل شجعت الإدارة الأمريكية صدام عن طريق سفيرتها في العراق أم لا.
لكن ما حدث على الأرض فعلا أنه تم الغزو. وفي غضون أربعة أيام صدر قرار مجلس الأمن بفرض عقوبات اقتصادية على العراق، وفي أقل من ثلاثة أشهر صدر قرار آخر باستعمال "كل الوسائل" لإخراج العراق. شكلت أمريكا التحالف بغطاء أممي وشنت ما يعرف بحرب الخليج الثانية. وخرج العراق من الكويت بعد دخولها بسبعة أشهر فقط. (لا يمكن أن تمنع نفسك من المقارنة بين سرعة اتخاذ القرارات والتحركات في هذه الأزمة مقارنة بأزمات أخرى تأخذ سبعة أشهر للاتفاق على بيان إدانة!)
ماذا كانت النتيجة؟
• الدول
العربية مقسمة نتيجة تفاوت مواقفها من حرب الخليج الثانية (حيث أيد قليل منهم العراق وتحفّظ عدد أكبر على الاستعجال في قرار الحرب) وان ظلت الكتلة المركزية "دول الخليج ومصر" على تحالفها، فالمصالح مشتركة والمواقف موحدة ومتماشية دائما-وليس من قبيل الصدفة-مع الإرادة الأمريكية
• تم وبشكل علني إنشاء قواعد أمريكية عسكرية في مختلف دول الخليج!
• تم تدمير الجيش العراقي تقريبا
• تم فرض عقوبات اقتصادية على العراق تضرر منها شعب العراق بأكمله الا رؤوس النظام ورغم أن العقوبات كانت لإجبار العراق على الخروج من الكويت الا أنها استمرت لسنوات بعد خروجه.
(2)
لنظل مع العراق قليلا..فما حدث يستحق التأمل:
ربما لم يسمع الكثيرون عن "الثورة الشعبانية". بعد انسحاب الجيش العراقي من الكويت أطلق أحد الجنود المنسحبين النار على تمثال لصدام حسين في البصرة. وكأنها كانت الشرارة! انطلقت المظاهرات في جنوب العراق وشماله لتشمل في أيام قليلة 14 محافظة من أصل 18.
لا يجب أن تتعجب إذا قلت لك أن أمريكا ساعدت الثورة ضد صدام..فهذا هو النظام الذي كانت تحاربه منذ أقل من شهر. ولكن يجب أن تطرح ألف علامة تعجب واستفهام حينما أقول لك أن ما حدث كان على العكس تماما! فقد غضت أمريكا النظر عن القمع الوحشي للثورة. غضت الطرف عن استخدام نظام صدام طائرات الهليكوبتر المسلمة له بحجة نقل الجرحى من الكويت إلى العراق في قصف المدن وإيقاف الانتفاضة. وغضت الطرف عن مذابح عنيفة. وغضت الطرف عما تردد عن استعمال أسلحة كيمياوية ضد المواطنين. باختصار غضت الطرف عن مقتل 300 ألف إنسان خلال 14 يوما رغم أن قواتها كانت ما تزال على عتبة العراق..مقيمة في الكويت والسعودية!
فقط بعد ضمان قمع الثورة واستمرار صدام تم فرض منطقة حظر طيران في شمال العراق و"شماله فقط". فتم توفير الحماية للأكراد وانقسم أول جزء من العراق وأصبح هناك ما يسمى اقليم كردستان العراق بحكم ذاتي.
هل يمكن فهم ذلك الا بأن استمرار وجود صدام كان مطلبا أمريكيا "ملحا" في هذا الوقت. كان صدام مسمار جحا بالنسبة لهم..الذريعة التي يمكن استخدامها. والعدو الضعيف الذي تستطيع القضاء عليه ولكنك تستفيد من وجوده أكثر..لتخويف طرف أو لاستغلال آخر. كان المطلوب في هذه المرحلة اضعاف صدام وليس القضاء عليه.
(3)
فماذا عن الاتحاد السوفيتي وباقي اللاعبين؟
الاتحاد السوفيتي: لم يعد هناك اتحاد سوفيتي! تفكك الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينات على يد جورباتشوف وأجهز عليه يلتسين بالضربة القاضية. طوال التسعينات كانت روسيا –التي خلفت الاتحاد السوفيتي كأكبر جمهورية نتجت عن التفكك-في أضعف حالاتها مشغولة بانهيار اقتصادي واجتماعي هائل ومعدلات فقر مرتفعة وفساد ومافيا تدير البلاد. لذلك لا يمكن اعتبار أن لها دور خارجي في هذه الفترة. كانت التسعينات فترة القطب الأوحد بلا منازع.
تركيا: أيضا تركيا كانت لاتزال بدون تأثير خارجي في المنطقة هذه الفترة. كانت تركيا منشغلة بانقلاباتها العسكرية وصراعها الدموي مع الأكراد. بعد قائد الانقلاب العسكري "كنعان" تولى تورجوت أوزال الرئاسة وسمح في عهده بحرية أكبر للمظاهر الإسلامية وقام بأداء الصلاة علنا –وهذا حدث غير اعتيادي من رئيس تركي-. وتوفي (وظهر بعد ذلك أنه اغتيل) في 93. وتولى بعده سليمان ديميريل. أما سبب اغتياله فسنتعرض له فيما بعد.
إيران: رغم محاولات صدام شراء رضا إيران فان القادة الإيرانيين كانوا من الذكاء بحيث أجادوا قراءة الصورة بعد بضعة أيام من الصمت وانضموا الى صفوف المنددين بالغزو. أسفر هذا الموقف عن تحسن في علاقات إيران بقيادة رفسنجاني بدول الخليج وخاصة الكويت في فترة التسعينات
(4)
كانت لأحداث الخليج نتيجة أخرى مهمة, وهي ظهور الخلاف العلني بين أسامة بن لادن من ناحية وبين السعودية وأمريكا من ناحية أخرى!
خطوة صغيرة للوراء لصورة أوضح..
ظهر اسم أسامة بن لادن في الثمانينات أيام الغزو السوفيتي لأفغانستان. كان من أوائل العرب الذين ساهموا في الجهاد ضد السوفييت مستجيبا لدعوات الدكتور عبد الله عزام. بدأت مساهماته بجمع التبرعات وتقديم الدعم المالي وزيارة المجاهدين الأفغان ثم استثمر بن لادن خبراته كمقاول وامكانياته المادية في تمهيد الجبال وانشاء معسكرات للمجاهدين الأفغان وسط الجبال برغم الطبيعة الوعرة. ثم أنشأ معسكر الأنصار...أول معسكر لاستقبال وتدريب المجاهدين العرب. كان لهذا المعسكر وما تلاه أثر كبير في ازدياد معدل قدوم المجاهدين حيث أصبح من يستقبلهم ويدربهم ويعرفهم على الأجواء بل ويقودهم في معارك ضد السوفييت عرب مثلهم. كخطوة تنظيمية ومع زيادة الأعداد أنشأ الشيخ أسامة سجلات لمتابعة المجاهدين العرب: قدومهم وتحركاتهم وجبهات القتال...اصاباتهم واستشهادهم أو عودتهم. كانت هذه السجلات تتابع المجاهدين في معسكرات مختلفة "كان عددها قد زاد في باكستان وأفغانستان".
لذلك سميت "سجلات القاعدة"...ومن هنا جاء الاسم الذي استخدم لاحقا على نطاق واسع!
مع خروج السوفييت من افغانستان (1989) وسقوط الحكومة الشيوعية الحليفة لها في 92 تحررت أفغانستان، ولكن اشتعلت مباشرة حرب أهلية بين "المجاهدين"! كان "المجاهدون" فصائل متنوعة تحارب ضد العدو السوفيتي تحت قيادات مختلفة وعندما اختفى هذا العدو وقعوا في الفخ المعتاد ولم يستطيعوا الاتفاق فيما بينهم ورأى كل طرف نفسه الأحق بالقيادة والحكم (هل يبدو هذا مألوفا؟) فنشب صراع مسلح أسفر خلال سنوات قليلة عن مقتل أكثر من أربعين ألف أفغاني.
فصيل واحد من فصائل المجاهدين لم يشترك في هذا الصراع...فصيل كان يقاتل عن عقيدة ولا يعنيه شؤون الحكم..المجاهدون العرب أو من أطلق عليهم بعد ذلك "الأفغان العرب". وكان هناك تعليمات من أسامة بن لادن بما له من احترام وسلطة "معنوية" على هؤلاء المجاهدين بعدم المشاركة في هذا القتال. أسامة بن لادن نفسه غادر أفغانستان بعد خروج السوفييت وعاد إلى السعودية. عاد بطلا تحتفى به حكومته وشعبه!
ولكن عندما غزا صدام الكويت لم يرض الشيخ أسامة عن دعوة السعودية للقوات الأمريكية للقدوم والقتال ضد العراق (ويقال أنه عرض على الحكومتين السعودية والكويتية وقتها أن يتكفل المجاهدون العرب بإخراج صدام مقابل عدم دعوة قوات غير مسلمة ولكن عرضه رفض). كان منطقه أن هذه الدعوة موالاة لغير مسلمين ضد مسلمين، وتعد ناقضاً من نواقض الإسلام، وانتهاكا لحديث النبي عن جزيرة العرب. فانتقد وجهر بالانتقاد. زادت الخلافات فاضطر للعودة لأفغانستان وحاول أن يصلح بين أطراف المجاهدين ولم يوفق فانتقل سريعا الى السودان وظل فيها من عام 1992 الى 1996 وفي هذه الأثناء وجه انتقادات لاذعة للحكومة السعودية خاصة لدعمها اتفاق أوسلو، فردت الحكومة بسحب الجنسية السعودية منه.
(5)
ظهر صداع آخر في رأس الأنظمة العربية في هذه الفترة: الأفغان العرب
ذهب المجاهدون الى أفغانستان بتشجيع ومباركة رسمية عربية وأمريكية...لكن يبدو أن الأنظمة العربية –بعضها على الأقل-كانت ترى في ذلك وسيلة للتخلص من الناشطين في التيار الديني ولم تكن تتوقع أنه سيأتي يوم وينهزم السوفييت ويعود هؤلاء المجاهدين الى بلادهم! في بعض الدول كالسودان والأردن عادوا بدون مضايقات وبعضهم بقي في افغانستان منشغلا بعمليات الإغاثة، أما البعض الآخر فقد تعرض لملاحقات وبعضهم انخرط في كفاح مسلح ضد حكوماتهم. من أشعل فتيل العنف..هم أم الأنظمة الحاكمة؟ هذا سؤال صعب وفيه الكثير من التداخل لكن يكفي أن نستعرض فقط بعض الأمور المثبتة:
من ناحية كان بعضهم يحمل فكر وجوب تغيير هذه الأنظمة الحاكمة بالقوة وخاصة المنتمين لجماعة الجهاد المصرية. ومن ناحية أخرى اعتمدت الحكومات مبدأ التعامل الأمني فقط. التعامل الأمني كان في المجمل عنيفا وغاشما فلم يكن يتم حقيقة التمييز بين من يحمل السلاح ومن يحمل الفكر ومن لا يحمل هذا ولا ذاك مادام يرتدي جلباب أبيض أو يطلق لحيته. كانت الأنظمة قلقة من تنامي التيار الديني وعازمة على استئصاله. اتسعت الهوة مع تباين موقف التيار الاسلامي عموما مع موقف الحكومات ازاء التحالف ضد العراق. وزاد الطين بلة ما كان يحدث في الجزائر في الوقت ذاته
(6)
في الجزائر في 1989 وبعد انتفاضة شعبية أتيحت حرية تأسيس الأحزاب فتأسس أول حزب اسلامي في البلاد "جبهة الانقاذ". جرت انتخابات المجالس المحلية في أول 1991 وتعدت نسبة مقاعد جبهة النقاذ 60%. لم يكن النظام يتوقع هذه النتيجة فبدأت الحرب على الحزب واتهم بالقيام بعمليات عنف واعتقل بعض قادته وأعضائه وقاد المعارضون له إضرابات في مختلف الأنحاء..ولكن رغم ذلك عندما أجريت الانتخابات التشريعية في نهاية العام حصلت جبهة الانقاذ على 82% من اجمالي المقاعد!
خلال أقل من شهر اتخذ المجلس الأعلى للدولة برئاسة وزير الدفاع قرارا بإلغاء الانتخابات وإعلان حالة الطوارئ، "لأن فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ هو تهديد للتجربة الديموقراطية الفتية"!!. تبع ذلك قرار بحل الحزب وحملة اعتقالات ومطاردات لعشرات الآلاف.. (الفيلم ده مش غريب عليا). لجأ الباقون إلى الجبال وكونوا تنظيما أعلن الجهاد ضد النظام العسكري واستفادوا بالطبع من خبرات الجزائريين الأفغان.
اكتسبت فكرة أن هذه الحكومات عميلة ولن ترضى بأي حكم اسلامي مزيدا من الزخم وسط أنصار التيار الاسلامي!
(7)
عزيزي القارئ: فضلا لا تكرهني! أنا أتفهم تماما حالة التوهان التي قد تكون تشعر بها الآن..شعرت بها مضاعفة وأنا أبحث وأكتب. ولكن أنا لم أصنع الأحداث! أنا فقط أعيد معك قراءتها وتجميع أجزاء الصورة مع بعضها فربما تبدو الأمور -رغم طبيعة الأحداث المتشابكة-أوضح وأصدق...ربما!
نصيحة أخيرة: أعد قراءة المقال..ستكون القراءة الثانية أفضل.
إذا قدر الله سنكمل في المقال القادم بدءا من عام 1996..كان عاما حافلا!