كتب
وحيد عبد المجيد: قبل عشر سنوات، وفي بداية
الحرب الأميركية الأولى على
الإرهاب، أصدر الباحث في مؤسسة البحوث الاستراتيجية الفرنسية برونو ترتريه كتاباً اختار له عنوان «حرب بلا نهاية». كان الافتراض الذي انطلق منه المؤلف هو أن الحرب على الإرهاب لن تصل إلى نتيجة حاسمة، وأن النصر لن يكون حليف أي من طرفيها في ذلك الوقت، وهما الولايات المتحدة وتنظيم «القاعدة». وذهب، في شرح فكرته، إلى أن تلك الحرب تحمل في طياتها ما يدفع للانسياق وراء أزمات متشابكة ومتناسلة، والوقوع في شباك حلقة مفرغة من الفعل والرد عليه.
ويبدو أن هذه الحلقة مازالت مفرغة بعد عقد كامل، وأن الولايات المتحدة، التي أعلن رئيسها الحالي حرباً ثانية على الإرهاب في الذكرى الثالثة عشرة للهجمات التي دفعت رئيسها السابق لإعلان الحرب الأولى، مازالت واقعة في شباك تلك الحلقة المفرغة، فالحرب التي فرضها تمدد تنظيم «داعش» في غرب العراق وشمال شرق سوريا ربما تكون هي الأغرب بين حروب العصر الحديث، لأسباب أبعد بكثير من طابعها المتمثل في حرب بين دولة أو دول من ناحية وتنظيم من ناحية ثانية، فكم من حروب من هذا النوع الذي يُعرف بالحروب غير المتماثلة، وقعت وستقع في المستقبل.
فهذه حرب ضد تنظيم يعيش في عصر سحيق كان العقل الإنساني فيه محدوداً، بينما تنتمي الدول التي تحاربه -بدرجات مختلفة- إلى العصر الحديث الذي فتح فيه العقل آفاقاً لانهائية للتقدم! وكم هي شاسعة المسافة بين القوى الكبرى التي تقود الحرب، ويبلغ العقل فيها أعلى مبلغ في التاريخ، ويحقق أكبر اختراق في الطريق إلى المستقبل، والقوى التي تُشن عليها هذه الحرب بعقلها القابع في مجاهل التاريخ، غير أن هذه المسافة الشاسعة على مستوى العقل والمعرفة ليست العامل الحاسم في الحروب بوجه عام، فالانتصار في الحرب يتطلب استراتيجية شاملة ذكية أكثر مما يعتمد على القوة المسلحة، مهما كان مستوى تقدمها، وحتى إذا كان فيها الكثير مما يُطلق عليه أسلحة ذكية.
وتبدو الحرب على الإرهاب أصعب من أي حرب أخرى فيما يتعلق بإمكانات بناء استراتيجية شاملة ذكية تتضمن تغيير البيئة المجتمعية المنتجة للتعصب والتطرف، خاصة حين تتعدد أطراف هذه الحرب وتختلف مصالحهم، وتتباين أولوياتهم، ناهيك عن وجود تناقضات بين بعضهم، وتزداد هذه الصعوبة في الحرب الراهنة نتيجة فشل سابقتها، وما ترتب على ذلك من تداعيات جسيمة.
لم يقترن إعلان الحرب الراهنة باستخلاص الدروس من سابقتها، واستيعاب الأخطاء التي شهدتها، حتى لا يُعاد إنتاج ما صار هناك اتفاق واسع على أنه فشل استراتيجي كان له أثر كبير في حالة الاضطراب الراهنة في منطقة الشرق الأوسط والنظام العالمي.
وعلى سبيل المثال، لم يكن عدم الاهتمام ببناء تحالف دولي واسع ضد الإرهاب في الحرب الأولى هو المشكلة، لذلك لا يُعد بناء مثل هذا التحالف الآن هو الحل، إذ بإمكان الولايات المتحدة إيجاد أكثر من تجمع فضفاض يفتقد الحد الأدنى من التماسك، ويموج بخلافات بين معظم أطرافه وتناقضات جوهرية بين بعضها.
كما لم يكن إرسال «جحافل» من القوات البرية الأميركية إلى أفغانستان والعراق في حد ذاته هو المشكلة، بل الأهداف التي أرسلت تلك القوات لتحقيقها والرؤية التي انبثقت منها هذه الأهداف، لذلك ما كانت النتائج لتختلف في جوهرها لو أن واشنطن اكتفت بإرسال قوات جوية، وليست برية، واعتمدت على طائراتها وصواريخها وقنابلها. فالفشل الاستراتيجي يعود إلى خلل في الرؤية وعطب في السياسة، وليس إلى نوع القوات المستخدمة، والحال أن اختلاف هذا النوع، وبالتالي طبيعة الحرب، قد يؤدي إلى نتائج مختلفة في تفاصيلها، لكن ليس في محصلتها، وربما يكون الاختلاف في التفاصيل كبيراً، لكن بمنأى عن المحصلة المقصودة هنا، وهي الفشل الاستراتيجي للحرب الأولى على الإرهاب، والذي قد يكون هو نفسه مصير الحرب الثانية الراهنة.
وإذا صح هذا التقدير، سنكون إزاء «حرب بلا نهاية» في أي مدى زمني يمكن أن يغطيه التحليل السياسي الاستراتيجي المنضبط.
(صحيفة الاتحاد الإماراتية)