عدسات بسيطة لجوالات صغيرة كانت توثق حكاية البداية، كانوا جماهير حاشدة، وكانت الأصوات تصل متقطعة مع رداءة وسائل الإعلام حينها، كل ما كان يهم حاملي هذا الأجهزة، أن يصل الصوت، صوت الحرية، صوت الثورة التي اشتعلت أخيراً.
لطالما سمعنا عن قصص غيبتها الأيام والسنين لأناس قطعت أيديهم وأرجلهم، وآخرين فتكت بهم آلة الأسد في الثمانينات، لتجسدها اليوم العدسة أمامنا، وكلما رأينا مشهداً صرنا نكرر "صار أفظع من الآن بالثمانينات، بس ما كان في عدسة"!
الآن، لدينا آلاف الصور وآلاف الفيديوهات يقابلها آلاف الفظائع، كانت العدسة توثق، وكنا أبطال المأساة.
لكنها أيضاً كانت السر في أن يصل صوت المظلومين للعالم، خاصة بعدما يئس هؤلاء من أن ينقل أحد صورتهم وصوتهم، وباتوا يصورون الموت كما يصورون الحياة، يصورون الألم كما يصورون الأمل، قد يلتقط أحدهم مشهداً لقبر شهيد نبتت بجانبه زهرة، أو لضحكة طفل خرج لتوّه من مجزرة، أو عناق أبدي لأم الشهيد، عناق للقاء يبعد كثيراً، ويالحسرة المشاهد التي صورتها عدساتنا وأدمت قلوبنا وبقيت الذكرى.
بين المحلي والعالمي
جلُّ حاملي هذه العدسات غير محترفين، كل خبرتهم في الحياة تنحصر في موقف وُضِعوا فيه لمعركة شهدوها أو لحصار عاشوه، فتطورت الأدوات التي بين أيديهم وتطورت معها خبراتهم، وتأسست بناء عليه عدة صفحات على الفيسبوك تحمل اسم المنطقة التي يعيش فيها المصور، وكانت بدايتها عدسة شاب دمشقي، حمصي، حلبي ....الخ.
كانت هذه الصفحات تصور الحياة اليومية في
سوريا بحلوها ومرها، أبيضها وأسودها، فتلهج قلوب المغتربين بالأشواق لمدنهم، وتعيد الذكريات للمهجرين عنها.
ومع أفول 2014، العام الرابع للثورة السورية، كان ختامه بخمس صور اختيرت من سوريا كأثر الصور تأثيراً بحسب مجلة التايمز، وهي صورة مخيم اليرموك، حمص القديمة المدمرة، زواج القاصرات في
الزعتري، أرامل الجيش الحر في الزعتري، الهجرة غير الشرعية.
بينما تصدرت مجلة "ناشيونال جيوغرافيك أجمل صورة في حمص لسرب من الطيور أضفى الحياة على أحيائها المدمرة، حيث التقط هذا المشهد المصور "سيرجي بونوماريف".
بينما حظي أطفال حمص بجمهور حاشد، إذ كان الناس يبحثون في هذه المدينة تحديداً عن أي بصيص أمل يجدونه في عيون الأطفال.
عدسات بعيون مختلفة
مهند الحمود أطل بعدسته على صفحات التواصل الاجتماعي، وتميزت عدسته بالتقاط بسمات للأطفال المحاصرين في مدينة حمص، وصار لكل طفل هناك حكاية يقصها علينا، قد يمضي مهند يومه لتوثيق الدمار والموت، أو لنقل المصابين وعلاجهم، ثم يختمه بلقطة لطفل يضحك، وأخرى لطفلة تركض مبتسمة.
مهند الشاب، الذي بدأ دراسته في كلية الحقوق، لم يدرس
التصوير بصفة مهنة، إنما وضعته الثورة في هذا المكان ليلتحق بها بعدما ترك دراسته، ميقناً أن مستقبله يبنى في ثورة اشتعلت.
يقول مهند بأنه بدأ نشاطه بالثورة في حي الخالدية مسعفًا في مشفى والده، ثم انتقل إلى الوعر بعد تأزم الأوضاع في الخالدية، ليبدأ هناك التصوير بشكل أكبر، ويصبح فريقه ثلة من الأطفال المحاصرين الباحثين في آخر النهار عن عدسة تلتقط لهم ابتساماتهم الهاربة من عيون الموت.
مهند، الشاب الذي لم يعرف اليأس يوماً، يحاول بكل ما أوتي من أمل أن ينقل تلك البسمات إلى قلوب العطاش للحياة، ويؤكد أن كل ما يريده أن يزرع روحاً خضراء في قلوب تفحمت من اليأس.
تميزت صوره بطغيان الحياة عليها، رغم ظاهر المدينة المدمرة، ويبرر مهند ذلك أن لصورة الفرح تأثيراً أقوى من صورة الحزن، فهي تعيد الثقة والإرادة للذين ابتعدوا عن جو الحرب ،هؤلاء بدورهم يستطيعون بوسيلة أو بأخرى تشجيع المرابطين هناك على الاستمرار.
أما عدنان الدمشقي، وهو ناشط من حي برزة، فيعتبر أن العدسة تعني له كما يعني السلاح للمقاتل، فهي لا تقل أهمية عنه، بل كانت السلاح الأول الذي استخدمه الناس ضد النظام، بل وأرعبته كما لم يرعبه أي شيء آخر.
عدنان، الذي فقد عينه اليمنى إثر إصابته في إحدى المعارك في حي برزة، يعتبر العدسة عينه التي فقدها بل ويبصر بها، ويؤكد حتى الآن: لم أعد أبصر الأشياء بعيني بل بعدستي محاولاً أن أوصل رسالة صمود من صورة الخوف، ورسالة حياة من صورة الموت، ورسالة أمل من صورة اليأس.
أما إبراهيم الحريري، مصور شبكة شام في درعا، فيرى أن الرسالة التي حملتها العدسة رسالة سامية جداً، أدت وظيفتها سابقاً، ولازالت تكملها حتى الآن، لكن بشكل متقن، مؤكداً أنه حاول من خلال عمله أن يوثق الصور الثابتة أكثر من الفيديو، لاهتمام المجتمع الغربي بها أكثر من الفيديو الذي يفتقر حتى الآن إلى الدقة.
ولتامر تركماني، قصة أخرى، إذ يملك الشاب المقيم في الأردن خبرة طويلة في مجال التصوير ساعدته لاستثمارها في
الثورة السورية، لكنه بعد إصابته في درعا ذهب إلى الأردن، وكان للمخيم هناك حكاية أخرى للعدسة، فكلما قام بزيارة المخيم يتجمع حوله الأطفال لالتقاط الصور، ويضيف التركماني أن كمّ الألم في عيونهم من الصعب إيصاله بصورة!
تامر الذي قام بجمع صور شهداء الثورة السورية في لوحة طولها ما يزيد عن 170 م يؤكد أن اللاجئين في الزعتري كل همهم أن تصل مأساتهم للعالم من خلال الصور التي يقوم بالتقاطها، ويتمنى أن يجمع صور الأطفال في معرض ويبيعها فيكون قد ساهم بشيء لهؤلاء الأطفال.
الناس على دين إعلامهم
بينما يتحدث الصحفي والمخرج في قناة الجزيرة "منتصر مرعي" لـ"عربي21"، أن العدسة جعلت السوري في تحد كبير أمام العالم لينقل صوته إليه، خاصة مع حرمان الطواقم الصحفية من الدخول إلى سوريا، في النهاية فرضت الصورة نفسها على المشهد السياسي، في مقابل فرض النظام القبضة الحديدية، وفرض المجتمع الدولي تخاذله.
ويتحدث مرعي عن تمكن السوري من أن يتطور بنفسه من عدسة جوال رديئة إلى إجادته في حمل العدسة، حتى بدأ يتفوق على الهواة الصحفيين المحترفين، ساعده على ذلك جرأته وشجاعته في اقتحام أماكن خطرة، وكان يتم كل ذلك دون تأهيل أو تدريب.
وعن أكثر المشاهد التي كانت بحق مؤثرة في الثورة السورية، يتحدث السيد مرعي عن مشهد وفاة أم وأبنائها الثلاثة في مخيم الزعتري في الأردن، الذي اعتبره مشهداً يختصر كل الوجع السوري، إذ فروا من أصوات الموت والبراميل إلى قوائم اللجوء، وفي المنفى لاحقهم الموت.
بينما كان لمشهد استشهاد الصحفي"محمد الحوراني" أثر بالغ لدى الجميع وخاصة عند الأستاذ "منتصر" بحسب تعبيره، ذاكراً أنه التقي بالحوراني عندما كان يحضر لفيلمه "الطريق إلى دمشق" وبدا الشاب متقداً بالحرية والشجاعة، تبدى هذا الشيء في المهنة التي عمل بها ووثقت موته!
وعن أكثر الصور تأثيراً لدى المشاهد، هل هي صورة الحزن أم الفرح، يتحدث السيد منتصر، أن لا قاعدة لهذا الشيء، فلا يوجد صورة أقوى من صور مقاومة الموت والدمار بابتسامة وسط الجحيم، في المقابل، لا يمكننا أن نتجاهل الواقع المؤلم البائس، لأننا في النهاية بشر نعيش فيه.
ويضيف الأستاذ منتصر أن ما ينقص الناشطين الإعلاميين الآن هو عدسة السينما وحكايات الناس، فرغم تفوق السوريين في مجال التصوير، إلا أن هذا العنصر لازال مفقوداً حتى الآن، مشيراً إلى أننا بعد أن كنا نصنع أفلاماً وثائقية عن الحروب، صرنا نشاهد الحروب مباشرة على الهواء، لن يكون هذا الشيء سيئاً طالما أن عندنا أناساً تتسلح بالكاميرا، كما غيرها يتسلح بالسلاح، ويختم حديثه قائلاً: "لوكان عندي مئة جندي لسلحت عشرة ببنادق وتسعين بأقلام، وقالوا قديماً: الناس على دين ملوكهم، واليوم الناس على دين إعلامهم".