بعيدا عن لغة التهويش، والقراءة في الرمل، وراء القنّاصة من مليشات كُتَّاب التَّدخل السريع، الذين اقتنصوا الحدث، لبذر الفتنة، وإطلاق رشقات الأكاذيب، وبناء الآمال في الخيال، والأحلام في الرؤوس، بحتمية انتهاء الجماعة، وحتميَّة تفككها وتشظِّيها، نقف بهدوء، مع العقل والموضوعية، لنقرأ المشهد في رويَّة:
• الجماعة مرخّصة منذ عام:1945م، بقرار من حكومة مؤسس المملكة الملك عبدالله الأول -رحمه الله- وحضوره الشخصي للافتتاح، وتمّ تجديد
الترخيص لها عام: 1954م، كجماعة إسلامية شاملة، في ولاية الملك الحسين -رحمه الله- وكانت الجماعة أحد الأعمدة التي ارتكز عليها النظام للصمود في وجه الانقلاب، الذي كاد يعصف بالكيان الهاشمي مبكراً، فحفظها الملك للإخوان، رُغم محطات الافتراق في المواقف والرؤى بعد ذلك، التي وصلت إلى حدِّ سجن المراقب العام محمد عبدالرحمن خليفة - رحمه الله- أكثر من مرة!!
• ظلت جماعة
الإخوان وطنية وفيّة لدينها وأمتها وأهلها وناسها، فشاركت في حرب 1948، بقيادة مراقبها الأول عبداللطيف أبو قورة -رحمه الله- وحرب الاستنزاف ما بعد نكبة حزيران1967م، لكنها ألقت السلاح، واعتزلت الفتنة في أيلول من سبعينيات القرن الماضي، ورفضت أن تُوجه السلاح لغير وجهته الصحيحة!!
• واجهت الجماعة ضغوطاً كبيرة في بدايات الثمانينيات، حيث عمل النظام على تحجيمها، بعد اطمئنانه لتلاشي الخطر القومي، والتوجهات الاشتراكية واليسارية، فلاحق أعضاءها، وضيّق عليهم، وحرمهم الحقوق المدنية الأساسية، وفصلَ الآلاف من كوادرها من الوظائف العامة، وحرّم عليها وذُريّاتها أيَّ تمثيل في الجيش أو الداخلية، حتى جاءت هبّة نيسان، التي كان من مخرجاتها الانفتاح السياسي، وإنهاء الأحكام العُرفية، وردّ المفصولين لوظائفهم، وإطلاق السُّجناء السياسيين... إلخ.
• شارك الإخوان في برلمان 1989م بعد 35 سنة من الأحكام العرفية في انتخابات نزيهة لم تتكرر إلى اليوم، وفازوا بأغلبية مريحة، وشاركوا في حكومة مضر بدران، وعبروا بالأردن أعمقَ أزمة سياسية واقتصادية وأمنية في تاريخه، إبّان حرب الخليج الأولى، التي ما زالت الأمة تدفع ضريبة المشاركة فيها، وتعيش آثار خطيئتها إلى اليوم!!!
• بدأ الانقلاب على الديمقراطية مبكراً، في عام 1993م مع تشريع قانون الصوت الواحد، فتدحرجت الأوضاع إلى الوراء، وتمّ إنهاء الحالة الديمقراطية بشكل علني، بمذبحة التزوير الشهيرة، على يد معروف البخيت عام 2007م، مما دفع الإخوان -بإجماع قياداتهم- على مقاطعة المشاركة السياسية، إلى حين تبديل السياسة المعمول بها تجاه مكونات الشعب الأردني، وقُواه السياسية الحيّة!!
• عبر هذه المساحة الزمنية كانت الجماعة تمرّ -في بُعدها الداخلي- بتجاذبات في الرؤى، والقراءات للمشهد، وهو شيء طبيعي في العمل الجماعي، بل مُحتمل وموجود ضرورة، لكنه خاضع في النهاية للمؤسسات القيادية المنتخبة، في ضبطه وتوجيهه وترشيده، غير أنّ بعض التجاوزات التنظيمية والإدارية، بدأت تتعمّق وتأخذ صفة الاصطفاف، والحشد للرأي، والرأي المقابل، فتشكّلت عدة قوىً من قيادة ذات أوزان متباينة، لها نظرتها ومؤيدوها، وتنسيقاتها الخاصة، وكانت مؤثرة في إفراز قيادات الحركة، ورسم توجهاتها، لكنّ الكفّة في السنوات الأخيرة، باتت تميلُ للطرف الذي يقود اليوم، ومن هنا اتكأ الطَّرف الآخر على دعوى المظلومية الناشئة من سياسة العزل والمحاصرة، حيث لم يعدْ قادراً على امتلاك أغلبية، تتبنى وجهات نظره!!
• جاءت مَوجة الربيع العربي، وتحرك الشعب الأردني محاولاً إسماع صوته للنظام السياسي، لردِّ المظالم لأصحابها، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، وكانت الحركة جزءاً منه، بل ضابطة لإيقاعه، خوفاً من جُنوحه بعيداً عن المصلحة الوطنية العامة، لكنها -أيضاً- كانت صريحة في مطالبها وشروطها، وكان دورها واضحاً في التأشير على العُيوب والكشف عن المفاسد، التي جرَّت المخاطر على الوطن وحقوق الناس، فصارت هدفاً مباشراً للحكومة، خاصة بعد الانقلاب على إرادة الشعوب في
مصر وليبيا وسوريا والعراق، بتنسيق إقليمي ودولي!!
• في هذه الأجواء بدأ الصَّوتُ الخافت في الجماعة تعلو نبرته- من بعض الأعضاء- وبدؤوا مرحلة ما يسمى بالإصلاح الداخلي – تلاه ما بات يُعرف لاحقاً بمبادرة مزمزم- الذي أخذ يَظهر ُ في الصحافة والإعلام، أكثر منه على أرض الواقع، وبدأت التراشقات الإعلامية، والاتهامات الفاقعة لقيادة الحركة، وبرز مصطلح التنظيم الدَّاخلي، بشكل غير مسبوق، بل ومستهجن، حيث إنّ لإطلاق مثل هذه التَّسمية على الاصطفافات، وموازين القوى في أي تجمُّع - بما فيه الأنظمة والحكومات- ظلالاً سلبية، تنعكس على الذهنية العامة لأعضاء التنظيم والمجتمع، واستدعاءً لأحوال لا ينبغي استدعاؤُها، في مستوى الوطن والنظام والهوية، بلفتةٍ (وفلتةٍ) غير مسبوقة، في تاريخ الجماعة!!
• الأخطر من هذا كلِّه هو تَبنّي هذا الفريق لفكرة تصويب أوضاع الجماعة القانونية، بعد هستيريا الرّدة على اختيارات الشعوب، ومحاولات دول الإقليم إدراج الجماعة في قوائم
الإرهاب، بعد أن فشلت في تمكين الانقلاب في مصر وليبيا، ولنا هنا أن نتساءل:
• لماذا نذهب لترخيص جماعة مرخصة -أصلاً- منذ سبعين عاماً كاملة؟! وما جدوى مثل هذه الخطوة في ظل توجه إقليمي عام لاستهدفها؟!، وما المقصود من هذه الخطوة في ظل التراجع الواضح، عن هذا الإرجاف بحق الجماعة، بعدما لم يجد المرجفون ما يساندهم في خطوتهم هذه، في تاريخ الجماعة كله، لأنها تمثل إسلام الناس العاديّين.. الإسلام العظيم ببساطته وروعته، وسلامه، ووضوحه وبيانه وثباته، الذي لا يمكن محاصرته أو استهدافه، وهو الذي ينفي شرعية أيّ جهة تحاول ذلك، ظلماً وعدواناً، فبدأ التراجع عنه، والبحث عن صيغة أكثر رُشداً، تتفاهم مع أكبر ممثلٍ فكري، لثقافة الأمة ووعيها وعقيدتها ومشروعها الحضاري الغائب، الذي لا يجدُ مَن يتبنّاه إلى هذه اللحظة في المستوى الرسمي تحديداً؟!
• ثم لنفترض جدلاً أن هناك جدوىً لمثل هذا التَّوجه، فلمَ لَمْ يكن عبرَ مؤسسات الجماعة الرسمية نفسها: قيادة وشورى؟! وإذا كان هذا الأمر قد عُرض -فعلاً- على القيادة الحالية، فلَمْ تأخذْ به، فهل يُبيحُ هذا لمن عرضوه أن يذهبوا منفردين لإتمامه، رُغم أنّ القيادة قد نبّهتهم أكثر من مرة، على ضرورة التوقف عن هذا المسلك؟!!
• ثم لنفترض أن الإشارة لهذه الخطوة جاءت من الحكومة نفسها - ولها أسبابها – فلِمَ لَمْ تتوجَّه بها مباشرة لمؤسسة القيادة في الجماعة؟!! وإذا كانت اختارت الإخوة الفضلاء كوسطاء - لاعتباراتها الخاصة- فَلِمَ لَمْ يقفوا عند حدّ الوساطة؟!! وبأيِّ اعتبار قانونيٍّ أو تنظيميٍّ أو عُرفيٍّ، يمضون في خطوات الترخيص، بعيداً عن الجماعة ومؤسساتها؟؟!!
• ثمَّ لنقلب المعادلة، ولنفترض أن الفريق الذي ذهب للترخيص، كان في موقع القيادة الحالية، ومارس الفريق القيادي الحالي نفس الدّور، الذي يمارسه هو الآن، فما هي نظرته له؟! وما هي تفسيراته وتأويلاته لفعله؟! وما هي خطواته وإجراءاته وردّات فعله تجاه القائمين عليه، يا تُرى؟!!
• منطقيٌّ في أيّ كيان تنظيمي أو مؤسسة شعبية كانت أو رسمية، أن تبقى مربعات الاختلاف في الوسائل والأفكار، والاستراتيجيات ضمن الخط العام للمؤسسة، متاحةً وممكنة، بل صحيّة ومطلوبة أحياناً، لكن القفز خارج كلّ هذه المربعات، إلى المثلثات والزوايا الحادة أو المنفرجة، لا يُعدُّ -أبداً- خطوةً مَقبولة، في أيّ منطق للعمل التنظيمي والمؤسسيّ مهما صغُر!!
• لقد فُصل في عهد القيادتين السابقتين جملة من القيادات الإخوانية الوازنة في مخالفات تنظيمية عادية، قياساً على المخالفة التي نقف أمامها اليوم، ولم تُؤثر جميعها شيئاً في مسيرة الجماعة، ولا في احترام إرادة المغادرين لها وحفظ ودادهم، وحقوق أخوّتهم!!
• لا شك أن مستوى التجاذب الداخلي في الصف الأول والثاني، قد زاد منسوبه في السنوات الأخيرة، وقاد إلى جملة من الممارسات غير المقبولة منهجياً، وربما أخلاقياً - في بعض الأحيان- ممّا عزّز معنى الشعور بالعزل والاستهداف، لدى عدد محدود من الأعضاء، لكنه عاد بظلاله السلبية على مساحة أوسع في بِنية التنظيم، مما كان يُحتِّم على الجميع جدّيّة أكبر في علاج آثاره، إزالة أسبابه؛ ومنع حصوله!!
• لست مع الذهاب باتجاه اتّهام النوايا، وأتمنى أن لا يكون مثل هذا الأمر صدر إلا من أغرار، في القواعد التنظيمية، فللإخوة الكرام سبق وعلم وفضل ودين، ينبغي مراعاته، والفصلُ الكامل بينه وبين الموقف والخطأ الحاصل!! وأتمنى أن يَعودَ الرّشد للجميع، وأن تتحرك باقي مكونات المشهد لاحتوائه، لكن ليس على قاعدة المغالبة، ولا قاعدة التراضي الوقتيّ، وإنما على أساس مؤتمر داخلي، تتصدّره قامات الدعوة من كل الأطراف، لوضع الأسس والضوابط القانونية والتنظيمية الناظمة، لعمل الجماعة، ونظامها الأساسي، وآليات إفراز الهيئات القيادية، بناء على أفضل ما أفرزته التجربة البشرية في هذا المجال!!
• وهمسة قبل الختام في أذن صاحب القرار، وأظنه واعياً مدركاً، وله خبرة طويلة في التعايش مع الجماعة: أنّ تجربة الحل غير مجدية - إذا كان يفكّر بها- بناء على السياق التاريخي للتعامل مع الجماعة، منذ فاروق وعبدالناصر، إلى مبارك والسيسي، ومنهم إلى بشار والقذافي!! وفي ظل إدراك الجميع في مستوى الإقليم، مدى خطورة المضيّ بهذا الاتجاه، في ظل المستجدات السياسية والأمنية والفكرية والطائفية والمصالح في المنطقة، ولما لمثل هذه الخطوة - لا قدّر الله- من تداعيات خطيرة، لا بسبب تغييب الحركة الإسلامية وحسب، ولكن لاعتبارات بنيويّة واجتماعية وسياسية وفكرية، لا ضامن لمخرجاتها، في حال اتّخِذت هذه الخطوة غير الواعية، التي تشكل مجازفة - بحسب توصيف الخبراء والمختصين - في ظلِّ التهاب المشهد، واضطراب البوصلة، حتى بالنسبة للمجتمع الدولي، عداك عن دول الإقليم، التي تقف على حافة الانفجار، بعد الشّلل الواضح، الذي ضربَ عميقاً في مخّها، فأعطب عصب القدرة السيطرة في تعاملها مع ظاهرة الربيع العربي بسنواتها الأربع، بدل المعالجة الجادة لأسباب انطلاقها، وإجراء الإصلاحات الضامنة لاحتوائها والسيطرة عليها، وتوظيفها لنهضة الأمة، وصيانة مقدراتها !!