(1) رويت لبعض الأصدقاء الكرام في مدينة
مراكش المغربية التي استضافتنا بأريحية شطراً من الأسبوع الماضي تفاصيل المصيبة التي حلت بطائفة من الأسر السودانية التي هاجر أبناؤها وبناتها خلسة إلى محارق سوريا كما رواها الرواة. استمع الإخوة باهتمام، ثم تساءل أحدهم: كم عددهم. أجبت أنهم أحد عشر، كما علمت. سكت صاحبنا برهة قبل أن يجيب: إن عدد الشباب المغاربة الذين التحقوا بتلك الجماعات يقدر حالياً بأكثر من ألف وخمسمائة!
(2) ليست هذه من الأحوال التي تهون فيها مصيبة من يعرف مصيبة غيره. ولكن تواتر انسلال الشباب من كل أصقاع العالم للالتحاق بداعش وأخواتها أمر يثير الكثير من الحيرة. وقد قدرت المخابرات البريطانية عدد الشباب الذين سافروا للقتال في سوريا بالمئات. وقد حاولت في حواراتي مع بعض الشباب والطلاب هنا اكتناه هذا السر، ولكن اللغز ما زال مستعصياً.
(3) الحالة السودانية الأخيرة تعتبر حالة خاصة، كون معظم الشباب (بلغ عددهم ثلاثة عشر بحسب آخر المعلومات) من حملة الجنسيات الأجنبية (بريطانية في الغالب)، ابتعثتهم أسرهم للدراسة في كليات طب خاصة في السودان. وقد سهلت لهم جوازاتهم الأجنبية الخروج من البلاد والدخول لتركيا بدون عوائق. وهذا يطرح أسئلة مهمة حول تجاوب الشباب ذوي الثقافة الغربية مع دعاية هذه الجماعة التي لا تنتمي إلى هذا العصر ولا إلى الأمة الإسلامية وقيمها.
(4) بعض الأصوات المعارضة سارعت بتحميل الحكومة السودانية وخطابها الإسلامي المسؤولية عن انزلاق الشباب إلى هذا المنعرج. ولكن هذا تحامل يجانبه الصواب. من جهة لأن الحكومة السودانية تخلت منذ دهر عن خطابها الجهادي، وقد تخلى عنها حتى جهاديوها الأصلاء من «سائحون» وغيرهم.
ولكن حتى بفرض أن السودان ما يزال يردد تلك الدعوات، فقد كان الأولى بالشباب لو كانوا يستجيبون لمثلها أن ينصرفوا للجهاد في داخل السودان وفي المواقع التي يرضى عنها النظام، وليس في مواقع بعيدة.
(5) من الواضح أن إشكالات انخراط الشباب في التنظيمات الدينية المتطرفة يمثل فشلاً للحركات الإسلامية المعتدلة والسلمية، مثل حركة
الإخوان المسلمين وغيرها، وخيبة أمل في برامج هذه الحركات وخطابها الذي لم يعد يستهوي كثيراً من الشباب الطامح للتغيير الراديكالي.
(6) ما شهده السودان هو أقرب لأن يكون امتداداً لما يحدث في بريطانيا والغرب من استجابة لدعايات داعش من قبل الأجيال الصاعدة من أبناء المسلمين، بل وكثير من غيرهم ممن يعتنقون الإسلام تأثراً بهذا الخطاب. ومسؤولية النظام السوداني عما حدث لا تزيد ولا تنقص عن مسؤولية حكومات بريطانيا أو المغرب أو السعودية عن تسلل أبناء تلك البلدان إلى حضن داعش. وهذا الأمر في حاجة إلى تقصٍ دقيق للعوامل الثقافية والنفسية التي تسهل مثل هذه الاستجابة، وإعمال العقل بروية وتبصر، وليس كيل الاتهامات غير المدروسة.
(7) عندما قامت جماعة «
بوكو حرام» باختطاف فتيات مدرسة ثانوية من مدينة «تشيبوك» النيجرية في أبريل من العام الماضي، أطلق النيجريون حملة شعارها «أعيدوا بناتنا»، قد تحولت بسرعة إلى حملة عالمية. وكان من رمزية ذاك أن ميشيل أوباما، زوجة الرئيس الأمريكي، شاركت في الحملة عندما أطلقت تغريدة تحمل صورتها وهي تلبس قميصاً يحمل شعارها. وينبغي أن تنطلق حملة مماثلة لاستعادة الشباب المغرر بهم ممن انضموا إلى هذه الجماعة البربرية، وأهم من ذلك، وقف نزيف القوى الشبابية الواعدة باتجاهها.
(8) الفرق بالطبع هو أن الفتيات النيجريات خطفن قهراً، بينما شبابنا هرعوا إلى ذلك المستنقع متحمسين طائعين. وهذا يستدعي استراتيجية مختلفة، تجيش المثقفين والعلماء وقيادات الفكر الإسلامي من أجل طرح رؤية بديلة مقنعة للشباب. وهناك بالطبع دور محوري للأسر، فمن هنا بدأ التقصير. الآباء في هذا العصر المزدحم بالواجبات والمهام، لا يعطون أبناءهم ما يكفي من الاهتمام ـ وما نبرئ أنفسنا، فالمشاغل لا تنتهي. وقد نقول لأنفسنا أحياناً إن هي لهموم الوطن والأمة، ولكن المهمة الأساس لكل أب هي أسرته وأطفاله.
(9) ربما كان التقصير الأكبر للآباء والقيادات السياسية والاجتماعية هو في ضرب المثل وتوجيه طاقات الشباب إلى «الجهاد» البناء. فالشباب بطبعه ميال إلى التضحية والمثاليات. وأضرب مثلاً بشقيقة زوجة ابني وزوجها المرابط حالياً في سيراليون لمكافحة وباء الإيبولا. وكان الزوجان قد حضرا إلى الخرطوم في مطلع عام 2010 لحضور مراسم زواج ابني، وفي العام التالي، قررا التطوع للعمل في سيراليون لمدة عام كامل. وعندما تفشى الوباء في سيراليون العام الماضي، سارعا بأخذ عطلة من عملهما في المستشفى البريطاني والتحقا بأول فوج من المتطوعين. عادا بعد شهرين، ولكن الزوج قرر الرجوع إلى سيراليون حيث ما يزال يرابط في الخطوط الأمامية لمكافحة الوباء. هذا هو «الجهاد» الذي يجب أن نعلمه لأبنائنا: الإحسان إلى الغرباء والأبعدين ابتغاء وجه الله؛ استخدام ما علمنا الله لنفع الناس، وليس لذبح الأبرياء أو إعانة من يقترف ذلك.
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)