محمد بديع المرشد الأمريكي!

يبدو أننا لن نكون مبالغين إذا قلنا إنه حتى تاريخه فإن حذاء السجين السياسي أو الأسير محمد بديع أفضل كثيراً من أدمغة امتلأت شراً ولعب الشيطان بها، فباتت تلقي إلينا من الخفايا والأسرار والمفاجآت ما يُغني الأطفال عن أفلام "الأكشن" والخيال.

لم أذكر فضيلة المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين بلقبه ومكانته وذلك تنزُّلاً في الحوار مع الذين وصفتهم -تلميحا- من قبل في مقالاتي أنهم يرون أنفسهم في مقام الفراعنة الصغار وهم في الحقيقة دون منازل العبيد التي يهبطون إليها حين يشمّرون عن سواعد الخصومة، ويمتـشقـون أقلام الهجاء التي تسُحّ مداد فجورهم وما حوت صدورهم من غل وحقد.

" فكرة دعم محمد بديع مرشداً للجماعة جاءت من الجانب الأمريكي، لأنه شخص هادئ، ومستعد للاستجابة للرؤية الأمريكية".

العبارة سالفة الذكر لم ترد على لسان مخمور في حالة الثمالة، أو على لسان الذين قالوا لنا إن السيسي قام بأسر قائد الأسطول السادس الأمريكي، ولا حتى على لسان التي أهدت إلى الشعب الأمريكي هدية لم تجُل بخاطره، وهي أن رئيسه باراك أوباما وشقيقه مالك أوباما عضوان في التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، وأن شقيق أوباما ممول لأنشطة جماعة الإخوان المسلمين، لا؛ لقد كان هؤلاء أعقل من أن يهبطوا بأنفسهم إلى ما تحت القاع الذي استقروا به، لكنها جاءت تُحفةً من التحف التي يُتحف بها النجم اللامع والضيف المُفضّل للأذرع الأرثوذكسية والسيساوية معجبيه ومشاهديه، الذين لا أعرف بالضبط كمّ البصاق الذي يتفـلونه عليه مصحوباً بالقهقهة وهم يستمعون إلى ما ينضح به إناؤه تجاه الدكتور محمد بديع صاحب موسوعة بديع للإعدامات، إذ بلغ ما حصل عليه من إعدامات ستة إعدامات، لم تشفع واحدة منها عند الدكتور محمد السيد حبيب لتكف لسانه عن الرجل الذي قاسمه لقمة العيش وغربة الطريق أكثر من أربعة عقود.

بعد عقدين من الزمان قضاهما كاتب هذه السطور في معتقل طرة منذ عام 1994م منها خمسة عشر عاما في غرفة الإعدام  يتقلب في فراشه بكفنه الذي ينام ويقوم فيه، اغتسلتُ فيها أكثر من أربع مرات ويضعني فيها المرافق على الكرسي المتحرك وانتظر خلف باب الزنزانة انتظر أولئك الذين سيحملونني إلى مقصلة الإعدام بعد تأكدنا من أن حكماً بالإعدام سيُنفذ ذلك اليوم في عنبر الإعدام السياسي، فيأتي التنفيذ في كل مرة في سجين أو سجناء غيري من الزنازين المجاورة، كما لم تتلوث أناملي بكتابة التماس للمخلوع مبارك الذي أوقف تنفيذ حكم الإعدام بتوصية من وزيره حبيب العادلي وأبقى على هذه الحالة مع ثلاث أخرى لنكون عتقاء جمال مبارك حين يأتي إلى الحكم فيُحي العظام وهي رميم ويبعث الموتى من القبور كما فعل النمرود حين قال :{أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} (البقرة258) وذلك بعفوه عن المحكوم عليهم بالإعدام منذ عشرين سنة، لتكون المفاجأة التي تذهب بالعقول وتذهل الألباب وتصدح القنوات وتُكتب المعلقات في مدح صاحب العفو الزعيم بن الزعيم.

شاء الذي خلق فسوى وقدّر فهدى أن يدخل الحاكم بالإعدام ومعه الوريث (جمال مبارك) الذي كان سيعفو عن الإعدام، والوزير حبيب العادلي الذي سعى في وقف الإعدام، السجن ونفس المكان الذي تناول فيه المحكوم بالإعدام ذات مرة  الطعام وضُرب بيني وبينهم بسور يساره فيه المحكوم السياسي أو المعتقل السياسي كاتب هذه السطور، ويمينه فيه المحكومون الجنائيـون في قضايا مخلّة بالشرف من استيلاء على المال العام وسرقة واستغلال نفوذ ورشوة إلى آخر التهم التي حوكموا عليها وسُجنوا على ذمتها.

خرج المظلوم السياسي بعد عقدين من الزمان ولبث الظالم الجنائي في مكانه ما شاء الله له أن يلبث، وحين وجدت الذين ساموني سوء العذاب وأعدموني عشرات المرات وقضوا عليّ بالعجز الكامل مدى الحياة، حين وجدتهم خلف القضبان أذلة صاغرين تلاحقهم اللعنات والشتائم والسباب، فلا يملكون لها رداً ولا دفعاً، لم أُلوّث مداد قلمي ولا صفحة حياتي بأن أكتب كلمة واحدة في مجرم ظالم لم يعد يملك ما يدفع به أهالي الضحايا من شهداء 25 يناير الذين كانوا ينتظرونهم كل جلسة محاكمة لينهالوا عليهم بالقذف بالطوب والحجارة والسباب والشتائم.

ذلك أنهم باتوا صرعى لجرائمهم، وجرحى في مشاعرهم، وما كان لمن يزعم الانتماء والاقتداء بخير من علّم البرية النُبل صلى الله عليه وسلم أن يُجهز على جريح أو يرقص على جثة صريع.

ليس من بين كبار المجرمين اليوم أحد في السجن فلذلك كتبت بدون حرج، لكن الداعي إلى الكتابة ليس انتفاء مانعها فحسب، بل وجود موجبها وداعيها وهو ذلك الروث الأخلاقي والفجور الذي بلغ حد الرقص على جثث أسرى ومجروحين ربما اصطفوا يوماً- متأولين- مع الجلاد ضد كاتب هذه السطور، لكن ذلك أبداً لا يُسقط حقهم علينا الذي لم يؤدوه يوماً لنا، فليس المسيء من أساء إلينا، وليس المحسن من أحسن إلينا، فربما  أحسن المسيء بمكره وأساء المحسن بخطئه، فالله الله في قومٍ دالت عليهم الأيام دولتها وهم صابرون محتسبون، وبوشيجة الإيمان وعروة الإسلام مستمسكون.
أما الذين بلغوا من الكبر عتياً ولم يجدوا ما يقدمونه لهؤلاء الجرحى سوى ما يتـقـيّـأون من فضل فجور خصومتهم؛ فلا أقول لهم كل إناء بما فيه ينضح، بل أقول ما قال زهير بن أبي سلمى:

وإنّ سَـفَـاهَ الـشّـيـخِ لا حِـلْـمَ بَـعْـدَه  وإنّ الـفـتَى بعـدَ الـسّـفـاهـةِ يـحـلَمُ 
 
عن مآسي العائشات حديثنا القادم إن شاء الله.