عانى مصطلح
الثورة داخل الفكر الإسلامي بشكل كبير؛ وعلى مدى التاريخ تبنت الكثير من التيارات الفكرية الإسلامية حالة رفض عام لفكرة الثورة، واعتُبِرت حالة لا تنتمي إلى الفكر الإسلامي، وهذا بالرغم من تطابق ما حدث في بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وما بعدها مع مفهوم الثورة بل وربما تكون تلك الفترة هي أعظم ثورة كاملة في التاريخ. يقول الدكتور محمد عمارة في كتابه الإسلام والثورة: "ولقد كان الإسلام عندما ظهر في شبه الجزيرة العربية في جوانبه الفكرية والاجتماعية والسياسية أول ثورة كبرى وأعظم ثورة في التراث الحضاري للعرب والمسلمين".
فكل ما تحمله فكرة الثورة أتت به الثورة الإسلامية الكبرى الأولى؛ فقد استطاعت تغيير بنية المجتمع وأفكاره واستطاعت إعادة بناء المفاهم الكلية لعلاقات الإنسان بنفسه وبالمجتمع وبالله؛ وبالتالي غيرت تماما في بنية السلطة في المجتمع العربي والإسلامي فيما بعد.
إذن، فما هو السبب الذي صنع حالة العداء الكبير للفكرة داخل قطاعات فكرية إسلامية بل وجعلها تلوي النصوص والتاريخ لتدمير أحد أصول العمل الإسلامي -وهو الثورة- لصالح حالة من الاستكانة للاستبداد؟
قبل محاولة الإجابة على هذا السؤال؛ ينبغي تحديد فارق هام بين الجهاد والثورة؛ فهو ليس إحلالا بمصطلح محل آخر ولكنه فرع من أصل. وآلية من مفهوم كبير.
فالجهاد لغة هو بذل واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل واصطلاحا بذل الجهد من المسلمين في قتال الكفار المعاندين المحاربين، والمرتدين، والبغاة ونحوهم؛ لإعلاء كلمة الله تعالى.
الجهاد حالة دائمة تتعدد وسائلها في سبيل تحقيق غاية محددة؛ وهناك مساحة واسعة داخل مفهوم الجهاد تتحرك من النصح والإرشاد والدعوة وغيرها من الآليات الاجتماعية إلى مساحة أخرى تماما من العمل المسلح الشامل دفاعا عن وجودك ذاته.
إن الخلط –ربما المتعمد- في الكثير من الأوقات، ومن الكثير من التيارات بين المفاهيم والإجراءات وأيضا حصر المفاهيم داخل إطار ضيق من الإجراءات هما كارثتان على الفكر الإسلامي.
فقد حصرت بعض التيارات "الجهاية" سابقا –ولا زالت– مفهوم الجهاد في أقصى اليمين، ولم تتعامل مع باقي المساحات الواسعة للمصطلح بل واعتبرت أن أي من التيارات التي تشغل تلك المساحة قد تخلت عن مفهوم الجهاد وباعت نفسها للدنيا؛ واندفعت الكثير من التيارات إلي الجانب الآخر وقصرت مفهوم الجهاد علي العمل الدعوي والتربوي والخيري، ووجدت فيه المجال الآمن للعمل حماية لها من بطش السلطة.
لم يستطع كل من الطرفين رؤية الآخر وارتبط مفهوم الجهاد عند الطرفين بالإجراءات التي يؤمن بها كل طرف، وأصبحت الإجراءات الأخرى ضرب من الخيانة أو الكفر؛ وتصلبت العقول من طول الأمد.
نعود للثورة والتي هي عمل يحدد داخل المساحة الواسعة للجهاد الوسائل والأساليب اللازمة لإحداث التغيير الشامل ببنية المجتمع؛ وتظهر ضرورة الثورة عند وجود انحرافات هيكلية بالنظام السياسي والاجتماعي يصعب حلها في مساحة الجهاد الناعمة؛ وبالتالي تجنح إلى مساحات من الجهاد الخشن لتحقيق أهدافها؛ فالثورة مفهوم ينتج من الواقع أما الجهاد فحالة مستدامة تكون الثورة أحيانا ضرورة إجرائية وفكرية لتحقيقه عمليا.
وعلى مدى مئات السنين تبنَّت الأنظمة رسميا الاتجاه الذي يحصر الجهاد داخل المساحات الهادئة وصنع صورة ذهنية ووعي جمعي بذلك؛ وأصبح الحديث عن الثورة خروجا عن الثوابت؛ وعندما لم تجد بعض التيارات الإسلامية بُدَّا من استخدام مفهوم الثورة في حديثها حصرتها في المساحات الآمنة الناعمة ولم تعد تستطيع التحرك من تلك المساحة وتجاوزها إلى مساحات أخرى واجبة.
إن المصطلح الأول الذي أُعلِن في 5 يوليو 2013 "سلميتنا أقوى من الرصاص" كان ربما متوافقا مع المرحلة وكان يعبر عن حالة إجرائية قد تتفق أو تختلف معنا أما المصطلح الثاني الذي أعلن منذ أيام أن "السلمية سبيلنا" فهو يربط الإجراء "العمل السلمي" ربطا لا فكاك منه ليس فقط بمفهوم الثورة ولكنه يربطه بالمفهوم الأشمل وهو مفهوم الجهاد؛ فهو يحصر هذا المفهوم الشامل في مجموعة من الإجراءات الناعمة؛ وهذا ربما أكبر حصار للتيار الإسلامي في تاريخه أنه أصبح يحاصر نفسه ولا يحاصره أحد.
إن الاستسلام للإجراءات علي حساب المفاهيم هي أكبر جريمة في حق الإسلام؛ وأسوأ هزيمة هي الهزيمة التي تصنعها بنفسك لنفسك؛ وأكثر الضربات قسوة هي التي تأتيك من حيث لا تحتسب.
في النهاية؛ تحية لكل الأبطال ولكل المقاومين ولكل الناجحين في الهروب من الحصار داخل المساحات المغلقة؛ تحية واجبة للذين يحاولون الخروج من التيه.