الحديث عن توسع محتمل للمملكة الأردنية الهاشمية في ظل أجواء الإقليم المتوترة، والمفتوحة على كل الاحتمالات، ينطوي برأيي الشخصي على «خطأ بصري» وحالة «حول» في التفكير السياسي، ليس لأن سيناريوهات توسع أو توسيع المملكة الأردنية ضعيفة أو نسبية، ولكن أيضا لأن الأردن قد لا يكون جاهزا لمثل هذه السيناريوهات.
الساحة المحلية، وطوال الأسبوع الماضي، دخلت في حالة هوس في تبادل المعلومات والتقديرات، بعد نظرية تحت عنوان "توسيع المملكة" طرحها أحد الزملاء من باب الاجتهاد في التحليل.
اللافت في هذه المقام هو تلك النظريات المعلبة التي تغادر النقاش في الموضوع، وتبدأ في الاسترسال بالحديث عن تسريبات مقصودة أو مغرضة.
محليا شغف الناس في تبادل المعلومات، والبحث عن الحقائق يعزز القناعة ببناء فرضيات هنا وهناك.
وغياب المعلومات الواضحة الصريحة من أصحاب القرار يطلق عنان المخيلة الشعبية، ويعزز مساحة غير واقعية قد تبنى على الرغبة، وليس على القدرة، وقد تتمركز في منطقة الاجتهاد والتحليل، خصوصا أن الشخصية المحلية تميل إلى الإفتاء وإصدار التحليلات، وهي تحاول توظيف واستثمار وسائط التواصل الاجتماعي.
هنا حصريا لا حدود لمخيلة الناس، ويمكن في حال متابعة تعليقات الأردنيين على "فيسبوك" مثلا التمتع بوجبات دسمة جدا من الضحك المتواصل، حيث تتعملق الأقزام، وتبرز القصص وتتضخم، ويظهر الشطط في التحليل والتفكير والتأويل والتفسير، وكأن البلاد تمتلئ بالمفكرين والمحللين، رغم أن المشكلات البسيطة التي يواجهها المواطن الأردني تدلل على افتقار الحالة الوطنية للمفكرين والمثقفين الذين يمكن الاستماع إلى اجتهاداتهم وتحليلاتهم، ورغم أن الحالة ذاتها تدلل أيضا على أن دوائر صناعة القرار خالية أصلا من الطبقة المفكرة والمثقفة.
بتقديري لو وجدت في مواقع القرار ومساحات النخب القيادية المتصدرة الآن في المجتمع شخصيات مؤهلة للتفكير العميق، وتتمتع بقدر من الثقافة، لما واجهنا نحن المواطنين العديد من المشكلات المستعصية.
الدولة الأردنية عميقة ومتمرسة وخبيرة، وهذا ما يشكل عنصر اطمئنان لنا جميعا، لكن أفضل ما يمكن أن تنجزه المؤسسة الأردنية في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ المنطقة هو حصريا الحفاظ على
الحدود الأردنية حاليا، ما يدفعني للاعتقاد بأن الحديث عن احتمالات توسع شرقا باتجاه العراق أو شمالا باتجاه جنوب سوريا حديث ينطوي على مبالغات وتهويل وتغميس خارج الصحن والطبق.
القيمة المضافة الأساسية للمؤسسات الأردنية تتمثل اليوم في الحفاظ على حدود المملكة الأردنية الهاشمية كما نعرفها.. حتى أعوام قليلة كان يقال لنا نحن المواطنين بأن أهم منجز لاتفاقية وادي عربة المشؤومة هو تثبيت الحدود مقابل الكيان الإسرائيلي الصهيوني السرطاني.
كنت أتمنى كوني مواطنا عربيا أردنيا أن اساهم مع دولتي في التوسع باتجاه الضفة الغربية وفلسطين، خصوصا أن الضفة الغربية بالمعنى الدستوري والقانوني لا زالت تمثل الجزء المحتل من المملكة الأردنية الهاشمية، أو يمكن -حتى لا يغضب البعض- اعتبارها «وديعة» ضاعت خلال الإدارة الأردنية.
يعني الكلام أن الحديث عن توسعات هنا وهناك خارج معادلة الاستحقاق الدستوري قد يكون مفيدا لطرف نشتبه به أصلا في إثارة كل مشكلات المنطقة، وهو دولة إسرائيل.
نشتم رائحة إسرائيل طرفا مستفيدا من كل التفاصيل، سواء عندما يتعلق الأمر بسايكس بيكو الطائفي الجديد للمنطقة، أو بولادة ظاهرة قاطعي الرؤوس، أو بالتنظير للتحشيد الطائفي السني والشيعي.. كلما ارتكبت مجازر وساد الدمار وظهر المتطرفون استفادت إسرائيل؛ لأن هذه الأمة المبتلاة تنشغل في نفسها.
على هذا الأساس، يمكن قراءة التأويلات المبالغ فيها، وإن كان من حق العاملين في الحقل السياسي والإعلامي طرح الاجتهاد أو التحليل.
يسأل المواطن الأردني نفسه.. كيف ستتوسع دولتي أو مملكتي ؟.. سؤال سهل في ظل الفساد الذي يعيث بالمنطقة وشعوبها ودولها، والإجابة صعبة جدا، فالتصدي على سبيل المثال لظاهرة الغش في الامتحانات تطلب عملا لمدة عامين واجتماعات تنسيق أمنية وأموال وكوادر بشرية، حتى أصبح إقامة امتحان للثانوية العامة دون غش منجزا وطنيا يستحق الأوسمة ويحتفل به القوم.
عشرات الاستراتيجيات وضعت لمواجهة ظاهرة العنف الجامعي دون فائدة.. بلاد تعاني من عدم وجود السوائل، حيث لا ماء ولا بترول، وعجز الميزانية كبير، والفساد أو الكلام عن الفساد أنهك الجميع، والمشكلات الاقتصادية تتكاثر، وتؤدي لاحتقانات هنا وهناك.. كيف يمكن الانتقال لمغامرة كبيرة في ظل هذا الوضع الإداري المتهالك اسمها توسيع حدود المملكة؟
الدولة الأردنية أبدعت في الربيع العربي إلى حد كبير، والحفاظ على هيبتها اليوم واجب وطني مقدس، وإذا توافرت نوايا محتملة للغرق في مستنقع التوسيع المحتمل قد تكون هذه النوايا خبيثة، وتضمر للأردنيين ومستقبلهم ودولتهم الشر، وأفضل ما يمكن أن يفعله القرار السياسي تجنب هذا المنزلق اذا كان صحيحا.
فالأردن اليوم -بالرغم من مشكلاته الاقتصادية- واحة للاستقرار والأمن والأمان، وتجربة فريدة من الشرعية، وهو وضع نشعر بالقلق عليه إذا كانت مثل هذه السيناريوهات مطروحة فعلا، وهي بتقديرنا الشخصي ليست كذلك.
الخطأ البصري صعد لواجهة الأحداث بعد بروز الشغف في محاولة قراءة المواقف الأخيرة التي استهدفت رفع الروح المعنوية والشعبية، ليس أكثر برأينا، ونتحدث هنا عن استراتيجيات الردع العسكري، ورفع الراية الهاشمية، وبرنامج تسليح العشائر السنية في العراق وسوريا، وعن الكلام عن الدفاع بعمق.
ما نتصوره بالسياق محاولة إيجابية وخلاقة للانطواء على حماية الذات، وحماية الحدود، ليس أكثر من ذلك.
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)