تونس تنتظر. لا تعرف ما سيحصل غدا لكنها تنتظر. لقد أمل الناس ذات يوم في تغيير ما بهم لكنهم هذه الأيام الصيفية الحارقة الخانقة يرون الآلة القديمة تدور في مكانها وتفرم آمالهم. ولكنهم يصرون في انتظار شيء ما. فهل يملكون الأسباب أم أن الانتظار عزاء جميل وتبرئة للذمة قبل الانهيار الكبير. ففي مثل هذه المراحل يميل بعض الناس إلى النواح المخفف للألم على ما كان يمكن أن يكون ولم يكن. في سياق النواح يلتقط المراقب عبارات متفائلة ولكنها لا تغطي حالة التوجس العامة المسيطرة على الساحة في آخر صيف 2015.
هل مات العجوز؟
سؤال يطرحه المهتمون بالشأن العام في تونس على أنفسهم كل صباح مع القهوة "يفتحون" الأخبار ويسألون: مازال حي؟ نفس السؤال الساخر سخرية سوداء من فترة حالكة كانت صحة الزعيم بورقيبة فيها محل تندر حزين على حال بلد يفوق عدد الشباب فيه 70 بالمائة (حينها) ويحكمه رجل مصاب بالسلس والخرف وأشياء أخرى. تتكرر الحالة الرجل الحالي مختف كأنه في قيلولة لا تنتهي. فإذا أخرج من مخبئه يدشِّن باخرة قديمة ويؤثث خبرا يذكر الناس أنه حي بعد. قد يصافح سفيرا ولكن الناس يشكون في تاريخ الصور ويخمنون أن مُزَوِّد القصر بالورد لا يغير شكل باقاته. حالة العطالة الصحية للرئيس أعطت الانطباع بأن البلد عاطل وعاجز ويحتضر. وما يزيد الأمر سوءا هو ظهور الغربان الناهشة حول جثة سلطة موشكة على التحلل وهي من علامات ساعة الرئيس.
ظهور الغربان حول جيفة السلطة
الجميع يرى محسن مرزوق والهاشمي الحامدي في دائرة القصر يمنون النفس بالحلول محل الشيخ التسعيني وربما استعجل بعضهم ذهابه أو سرّعه بوسائل حلوة، فقديما قيل إن لله جنودا من عسل.
معركة الرقم واحد المؤهل بعد الباجي انطلقت (ربما انطلقت قبل تنصيبه) فالاختيار عليه أصلا كان بمثابة شراء سلعة منتهية الصلاحية سريعة الزوال. التونسيون يذكرون هذه الأيام أيضا تسلل الضابط بن علي قرب بورقيبة من الداخلية إلى الوزارة الأولى إلى ذي الوزارتين ثم البيان الطبي ثم مرحلة الدكتاتورية الماحقة للإنسان التونسي ويقارنون حتى في تشابه السحنة بين بن علي ومرزوقي.
الطموح غير الشريف إلى الموقع واستعمال الوسائل الأقذر بلا شرف سياسي. الشعور بأن الغنيمة جاهزة يحرض الأكلة. ولذلك ظهر الهاشمي في الصورة. وهذا لا يخفي طموحاته ولا يموهها فهو مرشح سابق لم يفلح لكنه لم ييأس. وهذه أيام لإظهار الرغبة وعقد التحالفات ومماشاة المرحلة ودعمها حتى تصل الفرصة بالموت قبل الأوان أو حتى يحين الأوان في كل الحالات انطلقت المسابقة بين الزعيمين والفرجة مضمونة حتى الآن أما النجاعة السياسية والتغيير ومطالب الشعب التونسي في التنمية والحرية والديمقراطية فمتروكة للحكومة.(هنا يصبح النظام فجأة غير رئاسي).
جعجعة كثيرة حول رأس السلطة بعضها مسموع وبعضها سيفصح عن نفسه في الخريف ليسخن شتاء العاصمة بالإشاعات والأكاذيب والدسائس في حرملك القصر حيث يمكن ملاقاة الكثير من سنبل آغا يرتب المسائل و"يهز ويجيب" وهي عبارة تعني في الكيد الكثير. في الأثناء استعاد أصحاب المال أموالهم. وتماسكت قاعدة النظام الفاسد من جديد بموافقة برلمان منتخب.
عودة الأموال إلى أصحابها
كان هذا هو المطلوب منذ البداية وكان الناس يتظاهرون بأن الأمر سيكون مختلفا بعد الثورة. الأمل لم ينقطع في محاسبة رأس المال واسترجاع الأموال المنهوبة على شكل قروض بلا ضمانات كانت تعطي ضمن استزلام رأس المال للسلطة وإسكاته بالرشاوى السهلة. وصلت البنوك العمومية إلى حد إعلان الإفلاس وفرضت مؤسسات الإقراض الدولي إعادة الرسلمة وهي تمم الآن لكن دون محاسبة الذين سببوا الإفلاس. معركة محتدمة الآن بين طبقة رجال الأعمال الفاسدين الذين قاموا بإسناد حزب النداء حتى أعادوه إلى سدة الحكم من أجل هذه المهمة وبين القوى المساندة للثورة والتي عجزت عن تطوير أداءها السياسي فخسرت السلطة. تتضح الخسارات وتتضح اللوبيات وتخسر الثورة زخمها في صراع قانوني يقوده برلمانيون فقراء إلى المشروع الوطني الكفيل بتعديل منوال التنمية وإطلاق عملية اقتصادية اجتماعية تنهي وضع التفاوت الجهوي وتصلح من حال البلد.
هذا الصيف أجهض الأمل في المحاسبة ومنظومة العادلة الانتقالية التي أرسيت لها هيئة دستورية منتخبة تبدو الآن وقد تجاوزتها الأحداث ورئيستها تكافح تقريبا وحيدة وقد تخلى عنها الجميع. بدعوى أن العدالة الانتقالية ليست عدالة انتقامية وكم أن هذه الكلمة حق يراد به باطل. فلم يكن المطلوب الانتقام والتشفي بقدر ما كان إعادة الحقوق إلى أصحابها رمزيا وماديا. وما يزيد الأمر سوءا ويدفع بالإحباط إلى أقساه هو أن المطلب الاجتماعي قد وضع في سياق مزايدة ليس أكثر فبين غياب الجدية في الطرح. لقد طلب نواب الكتلة اليسارية في البرلمان فرض ضريبة على ذوي الدخل المرتفع لتمويل منحة بطالة للعاطلين لكن خروج هذا المطلب الشرعي من هذه الكتلة لم يؤخذ مأخذ الجد لأن أصحابه سبق لهم (في سياق نضالهم لإسقاط حكومة النهضة) أن أسقطوا ضريبة أكثر عدلا في سنة 2014 (قبل أسبوع من إصدار الدستور) تتمثل في فرض إتاوة على السيارات الخاصة ذات المحركات النهمة للوقود وكانت الإتاوة موجهة بحسب قانون المالية لسنة 2014 إلى تمويل صندوق التعويض. فكانت يقظتهم المتأخرة سببا في عدم التعامل الجدي مع مطلبهم.ووضع في خانة المزايدة السياسة ليس أكثر.(طبعا لم ينس التونسيون أن صيف 2013 واعتصام باردو هو الذي مكن للنداء من العودة فيصير الاعتراض على قراراه الآن لغو صبيان يتحامقون).
استعاد الأغنياء أموالهم أو أعفوا من المحاسبة وأسقطوا بقوة كيدهم ومناوراتهم كل احتمالات المحاسبة القانونية الانتقالية واستقام الأمر لهم بصفتهم طبقة فاسدة ومفسدة لتتمكن كعادتها من رقاب الناس وهي التي أوصلت البلد إلى حافة الانهيار مرات كثيرة وفي كل مرة تخرج بتغيير شكل السلطة وتحتفظ هي بالجوهر (القاعدة المادية) لها. وليس على شركاء هذه السلطة سوى الخضوع والطاعة لأن الإرهاب الموجه (البعبع) يترصد في المنعرجات الحاسمة. لقد صارت هناك قناعة في تونس أن تعطل مسار استعادة المنظومة القديمة لمواقعها يستعين بالإرهاب في كل أزمة. وآخرها عملية سوسة.
التفقير بصفته مولدا للأمل؟
إذن ماذا ينتظر التونسيون في خريف 2015؟ هم في انتظار شيء ما وسيكون حكومة جديدة توهم بالدخول في مرحلة تغيير. لكنها ستكون حكومة توزيع الصبر على الفقراء في مقابل توزيع المكاسب على من عداهم. ستحتاج الحكومة إلى تعاطف شعبي ولن تجده لأنها اجتنبت أسبابه. ولتستقر سيكون عليها أن تستعيد عصاها في إجبار الناس على الطاعة. عرف النظام العائد الآن مواطن ضعف الشارع التونسي (ولم يكن يجهلها فقد صنع منها الكثير) ولم يعرف الشارع التونسي نقاط قوته في مواجهة المنظومة (رغم سنوات الحرية القليلة). شيء ما في الأفق ولكنه ليس ديمة ماطرة. بل خريف غضب مكتوم وعاجز وبلا قيادة. الانتظار الحزين سيكون هدفا بذاته.