تجري الاستعدادات للانتخابات البرلمانية المعادة في
تركيا بعد أقل من أسبوعين بدرجة أقل من الحماسة عنها في
انتخابات السابع من حزيران/ يونيو الفائت، لكن أيضاً بمستوى أعلى من الترقب والحذر والأهمية، للسياقات التي تأتي في ظروفها هذه الانتخابات إضافة للانعكاسات المترتبة على نتائجها المتوقعة.
المرحلة الانتقالية
مرت تركيا في فترة ما بعد الجولة الانتخابية السابقة بفترة من عدم الاستقرار السياسي، ترتب عليها - ضمن عوامل أخرى بطبيعة الحال - تذبذب اقتصادي وتراجع أمني في البلاد.
فقد أسفرت الانتخابات الأخيرة عن فشل العدالة والتنمية في الاحتفاظ بأغلبية مقاعد البرلمان ليشكل الحكومة بمفرده - كما فعل دائماً - كما فشلت الأحزاب التركية في التوافق بينها على تشكيل حكومة ائتلافية، مما حرم البلاد لأول مرة منذ 2002 من وجود حكومة مستقرة وأدى إلى حالة من عدم الوضوح
في المشهد السياسي الداخلي، انعكس أيضاً على السياسة الخارجية.
من جهة أخرى، عاد حزب العمال
الكردستاني في العشرين من تموز/ يوليو الفائت إلى نشاطه العسكري بعد تجميده في ظل عملية التسوية السياسية بين الحكومة التركية والأكراد، وهو ما ترتب عليه رد عسكري تركي ومواجهة مفتوحة ما زالت رحاها تدور حتى الآن، حاصدة أرواح العشرات. وهي حالة أمنية متردية قاست منها تركيا في تسعينات القرن الماضي ثم ظنت أنها قد خلفتها وراء ظهرها، لتعود بشكل مركز خلال الأسابيع الماضية، ولتلقي بظلال من الشك حول إمكانية إجراء الانتخابات في جو ديمقراطي شفاف يضمن اعتراف الجميع بنزاهتها والخضوع لنتائجها.
أما الاقتصاد التركي فقد تأثر بعدة عوامل، أهمها فترة عدم الاستقرار وعدم تشكيل الحكومة، والعمليات العسكرية والحالة الأمنية المتراجعة في البلاد، والأزمات الاقتصادية في الإقليم والعالم (اليونان والصين وغيرهما)، مما أدى إلى تدهور الليرة أمام الدولار بأرقام قياسية، قبل أن تتعافى بشكل جزئي مؤخراً.
دروس الانتخابات السابقة
ولأن الفترة الزمنية بين الجولتين الانتخابيتين قصيرة نسبياً (أقل من خمسة شهور) وغير كافية لحدوث/إحداث تغيرات جذرية في قناعات الناخبين، فمن المفيد أن نتذكر ما يمكن اعتباره دروساً واستخلاصات مهمة من نتائج السابع من حزيران/ يونيو، ما زالت مستمرة ومؤثرة في الجولة القادمة، وأهمها ثلاثة:
الأول: التصويت على الهوية، وقد تبلور ذلك بشكل جلي في صعود حزب الشعوب الديمقراطي (القومية الكردية)، وما قابله - بشكل طبيعي ومتوقع - من صعود نسبي لحزب الحركة القومية (القومية التركية). وبكل تأكيد فإن فترة التصعيد العسكري الحالية بين الحكومة والعمال الكردستاني تغذي حالة الاستقطاب وتصب في خانة التصويت الهوياتي مرة أخرى.
الثاني، ثبات المشهد الحزبي في تركيا، بدخول أربعة أحزاب سياسية إلى البرلمان (بعد أن كانت ثلاثة رئيسة) ممثلة لأطياف المجتمع المختلفة، بحيث أصبح العدالة والتنمية ممثلاً عن أغلبية المحافظين/الإسلاميين، والشعب الجمهوري منبرا لأغلبية العلمانيين، والحركة القومية حزبا لأغلب القوميين، والشعوب الديمقراطي قلعة لأغلب الأكراد.
هذا الثبات في المشهد السياسي الحزبي - غير المرشح للتغير قريبا - يعني أن استفادة العدالة والتنمية من قانون الانتخاب التركي لم يعد متاحاً كما في السابق، حين كان تمثيله في مقاعد البرلمان يتجاوز كثيراً نسبة التصويت له، بسبب توزيع أصوات الأحزاب غير الممثلة في البرلمان على الأحزاب الممثلة فيه تبعاً لنسبها في الانتخابات، وكان للحزب الحاكم طبعاً حينئذ حصة الأسد من ذلك. بكلمات أخرى، فإن مرحلة الأغلبية المريحة للعدالة والتنمية - التي قد تسمح له بصياغة الدستور أو تغيير نظام البلاد - قد ولت إلى غير رجعة في المدى المنظور، حتى ولو عاد للأغلبية من جديد.
الثالث، الناخب الجديد. فقد صوت لأول مرة في حياتهم في الجولة الفائتة أكثر من مليوني شاب، فضلاً عن ملايين آخرين لم يعرفوا تركيا ما قبل العدالة والتنمية، ولم يعايشوا الانقلابات العسكرية والائتلافات الحكومية وانسداد الأفق السياسي والأزمات الاقتصادية المتلاحقة. هؤلاء وغيرهم ما عادوا يصوتون خوفاً من الوصاية العسكرية ولا بسبب الأيديولوجيا أو الأفكار فقط، بل باتوا أكثر طلبا للوعود الانتخابية المحددة والمتعلقة بالحياة اليومية للمواطن، مثل فرص العمل والحد الأدنى للأجور والراتب التقاعدي.
هذا "الناخب الجديد" ألقى بثقله في الانتخابات الماضية، وأثبت أن تصويت فئات معينة من الشعب للعدالة والتنمية لم يعد شيئا مضمونا في جيب الحزب بل يحتاج لبذل الجهد لتحقيقه. إن فقدان الشعور بالتحدي/ الخطر أدى إلى انصراف الناخب إلى معايير أخرى لدى توجهه إلى صناديق الاقتراع، وهو تحد مهم أمام الأحزاب المختلفة، سيما الحزب الحاكم.
ولذلك فقد أجرى الأخير تعديلات كثيرة في خطابه وشعاراته وبرنامجه الانتخابي وقوائم مرشحيه في إطار تقييمه لرسائل ودروس الانتخابات السابقة، فكان أن تجاهل تماما الحديث عن النظام الرئاسي، وغلبت التفاصيل الاقتصادية على برنامجه الانتخابي وفق وعود محددة ومتعلقة بحياة المواطن اليومية بالأرقام والتواريخ، وعدّل قوائم مرشحيه خاصة في المناطق ذات الأغلبية الكردية، وحاول تخفيف حدة الاستقطاب السياسي والمجتمعي قدر الإمكان، فضلا عن التزامه بسقف مرتفع في مواجهة العمال الكردستاني والشعوب الديمقراطي لمحاولة مغازلة الناخب القومي.
التوقعات والانعكاسات
لا شك أن السؤال الأهم الذي يرد على ذهن القارئ الكريم هو النسب المتوقعة في الانتخابات القادمة لمختلف الأحزاب سيما للعدالة والتنمية. لكننا نحتاج قبل الإجابة على هذا التساؤل إلى إيراد حقيقتين مهمتين:
الأولى، أن السؤال الأهم في الانتخابات السابقة كان حول استطاعة الشعوب الديمقراطي تخطي الحاجز الانتخابي، لكن هذا السؤال لا يبدو مطروحاً اليوم إذ تعطيه معظم استطلاعات الرأي نسبة مريحة فوق نسبة %10. فيما سؤال هذه الجولة هو مدى استطاعة العدالة والتنمية العودة للأغلبية وتشكيل الحكومة بمفرده.
الثانية، صعوبة الاعتماد بشكل كامل على شركات استطلاع الرأي في تركيا، بسبب حداثة تجربتها وتسييس بعضها، وبعد معظمها عن التوقع الدقيق لنتائج الجولات الانتخابية الأخيرة، وهو ما يجعل الانتخابات مفتوحة دائماً على المفاجآت، لكنها تبقى مؤشرات مهمة للاستشراف بشكل عام، خصوصاً في غياب مؤشرات أخرى أكثر دقة.
وهنا يمكن ذكر ملامح عامة تشترك فيها معظم - وليس كل - شركات استطلاع الرأي في استبياناتها، وهي:
-رفع العدالة والتنمية لنسبة تصويته عن انتخابات السابع من حزيران/ يونيو، واستمرار وتيرة هذا الصعود مع الوقت (بعض الشركات المحسوبة على المعارضة تشير إلى تراجعه قليلا).
- تراجع حزب الحركة القومية عن النسبة السابقة له، في الأغلب بسبب سياسة الرفض التي انتهجها إزاء المشاركة في الحكومة الائتلافية ثم الحكومة المؤقتة.
- تراجع نسبة التصويت للشعوب الديمقراطي، في الأغلب بسبب موقفه من التصعيد العسكري الحالي وتجنبه اتخاذ مواقف حازمة من العمال الكردستاني، لكن دون أن يتراجع إلى ما تحت الحاجز الانتخابي، وهو هنا يخسر بعض الأصوات من إسلاميي الأكراد لصالح العدالة والتنمية، بينما يخسر بعض أصوات اليساريين الأتراك لصالح الشعب الجمهوري.
في استطلاعها الذي نشرته في 18 أيلول/ سبتمبر الفائت، توقعت شركة (ORC) حصول أحزاب العدالة والتنمية والشعب الجمهوري والحركة القومية والشعوب الديمقراطي على نسب %44، %27.8، %13.4 و %11 على التوالي. بينما كانت هذه النسب في استطلاع شركة (ANDY-AR) بتاريخ 7 تشرين الأول/أكتوبر الحالي %42.6، %27.1، %15.2 و %12.1 على التوالي، وكانت هذه النسب في استطلاع شركة (METROPOLL) بتاريخ 16 تشرين الأول/أكتوبر الحالي %42.5، %26.3، %16.3 و%13 على التوالي.
وفق هذه الرؤية والخطوط العامة، وما لم تحصل مفاجآت كبيرة خارج السياق، يبدو أن تركيا تنتظر ما بعد انتخابات الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر أحد سيناريوهين يتناصفان فرص التحقق:
-فوز العدالة والتنمية بالأغلبية بفارق بسيط وتشكيله حكومة بمفرده، وهو ما سيجعلها حكومة حذرة - إن لم نقل ضعيفة - في مختلف توجهاتها وسياساتها، وخصوصا السياسة الخارجية.
-انجلاء الانتخابات عن مشهد مشابه للنتيجة السابقة (رغم ارتفاع أصوات العدالة والتنمية)، بما يفرض مرة أخرى سيناريو الحكومة الائتلافية، مع فارق مهم، وهو أن الأحزاب المختلفة ستكون أقرب لتشكيلها وتقديم التنازلات بين يدي ذلك، وهو ما سيعني الكثير على مستوى رؤية وسياسات "تركيا الجديدة" التي يسعى إليها الحزب الحاكم منذ سنوات.
في النهاية، وكما ذكرنا ما قبل الانتخابات السابقة، يبقى المواطن التركي صاحب القرار الأخير حين يتوجه لصناديق الاقتراع في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، ويبقى لنا أن نحلل نتائج تلك الانتخابات وانعكاساتها على التجربة التركية ككل، وخاصة فيما خص السياسة الخارجية وقضايا المنطقة، وهو موضوع المقال القادم إن شاء الله.