أخذت تحدثني بحزن وألم شديد عن النعناع الذي اسودت أوراقه وذبلت سيقانه، والليمونة التي كانت ذات مجد غابر في حملها لأعداد كبيرة من الثمار في موسم واحد كيف ذوت ويبست وفاضت روحها.. وكذلك الجوافة وأكثر المزروعات في حديقة منزلها في (لفكوشا) عاصمة قبرص المقسمة، كل ذلك بسبب مياه الجزيرة المالحة العسرة مع شح مياه المطر ونضوب الكثير من العيون فيها.
لم يكن هناك بشائر تلوح في الأفق أمام خالتي الحزينة لحلول سحرية تعيد الحياة لأرض كانت جدتي
أمينة يوسف أوغلو القبرصية التركية –رحمها الله- تتفنن في زراعتها بالأشجار والأزهار ومداعبتها مع إشراقة كل يوم بالسلام عليها والحديث معها وسقيها وإزالة الحشائش الضارة من حولها.
وفي المقابل فإن غزة التي احتضنت جدتي الحبيبة -رحمها الله- عقودا طويلة كانت قد نالت من حنانها الغامر بما بثته فيها من غراس أولتها عنايتها الفائقة، ولا غرابة أنها ما أقامت بمكان إلا واخضر وأزهر من حولها وفاح منه الأريج وتدلت الثمار يانعات في جنباته معلنة أن قبرص قد حلّت هنا في غزة.
جار الزمان على قبرص فقحطت السماء وأجدبت الأرض وأصبحت جزيرة أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها مهددة بالعطش والجفاف بسبب ملوحة المياه وعسرها. وفي هذه اللحظات العسيرة الصعبة ظهر المعدن الأصيل لجيرانها وبدت
تركيا كأم رؤوم حانية تفزع لمصاب ابنتها وتقوم بعمل المعجزات لإنقاذها. فهذا الطيب
أردوغان يقرر قرارا تاريخيا فيه من التحدي والمغامرة ما فيه، بأن يقهر العائق البحري الذي يفصل قبرص عن تركيا فيعلن عن مد مياه الري والشرب عبر أنابيب من تركيا تحت الماء بعمق 250 مترا إلى قبرص في مشروع ضخم بكلفة 1.6 مليار ليرة يوفر 75 مليون متر مكعب سنويا من الماء العذب لقبرص فيما يسمى بمشروع القرن كما أسماه أردوغان.
أما غزة فقد جار عليها الطغاة المجرمون فسرق الصهاينة مياهها الجوفية وقطعوا عنها كل إمدادات المياه العذبة من مياه الأمطار المتدفقة عبر وادي غزة، كما أنهم تعمدوا إقامة محطة تجميع للمياه العادمة فوق أفضل خزان جوفي في المنطقة. غير أن غزة لم تحظ بجار مخلصٍ وفيّ كتركيا يقف معها في محنتها ويبذل الغالي والنفيس لتوفير الماء العذب لشعب ظامئ لشربة حنان من جيرانه.
غزة التي شكلت سدا منيعا في وجه الأطماع الصهيونية أن تنال من
مصر ونيلها، ابتليت بمصيبة عظمى ضاعفت معاناتها وزادت من آلامها وأوجاعها بجار سوء تفنن في إيذاء أبنائها بإغلاق معبر رفح، وتشديد الحصار الجاثم عليها، وتوّج كل ذلك بضخ مياه البحر المالحة على الحدود الممتدة بينها وبين مصر المنكوبة بحكمه، ليرتكب بذلك جريمة عظمى قد لا تتعافى منها تلك المنطقة لعشرات أو حتى مئات السنين.
لو كان في
السيسي نخوة أو رجولة لفعل المعجزات من أجل إغاثة غزة العزة التي رفعت رأس المسلمين جميعا بصمودها ومقارعتها لمن يحتل أرضنا المقدسة ويدنس مسجدنا الأقصى المبارك، لو كان فيه ذرة خير لجاهد من أجل إيصال مياه النيل إلى غزة العطشى كما فعل أردوغان مع قبرص، ولكن هيهات هيهات لمن غدر وقتل وظلم وتجبر أن تصدر عنه أية مواقف إنسانية بعد أن ارتضى أن يكون أداة طيعة بأيدي أعداء الأمة وخنجرا مسموما في قلبها.
شتان ما بينه وبين من فتح أبواب بلاده للملهوفين المظلومين وافتخر أمام الأمم بأنه يبحث عن بركة الإحسان إليهم لدعم اقتصاد بلاده وتنميته، ثم هو يعي حديث نبيه صلى الله عليه وسلم في الإحسان إلى الجيران، ويعي قوله صلى الله عليه وسلم: (أفضلُ الصدَقةِ سَقْيُ الماءِ)، فلا يقف عند مدّ مياه الشرب إلى شمال قبرص التركية، بل ويتعدى ذلك إلى مخاطبته القسم الجنوبي من قبرص بقوله: "في حال رغب القبارصة الجنوبيين الاستفادة من هذه المياه، سنطلق عليها مياه السلام، ونزودهم بمياه من عندنا، لأننا نولي كل الاهتمام بالإنسان، فهو أساس الحياة ومنطلقها بالنسبة لنا" وهي كلمات ذات دلالات إنسانية عميقة تسطر بماء الذهب.
إنه بقناته التي شقها في قلب البحر ابتدع حبلا سُريّا فيه حياة لأرض قبرص وأهلها، فيما قناة المجرم السيسي التي أغرق بها رفح تنشر الموت وتفسد التربة الزراعية وتهلك الحرث والنسل.. وهكذا هو دأب الفاسدين المفسدين، وأنّى لدعوى الإيمان والتقوى أن تصمد أمام وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "واللَّه لا يؤمِنُ، واللَّه لا يؤمنُ، واللَّه لا يؤمنُ. قيلَ: ومن يا رسولَ اللَّه؟ قالَ: الَّذي لا يأمنُ جارُه
بوائقَه". (صحيح البخاري) وإخباره صلى الله عليه وسلم بأنه: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه".
(صحيح مسلم) وإن غزة العزيزة العفيفة الأبيّة لا تأمن أبدا بوائق وغدرات وفجرات جارها الانقلابي.
ولأننا في موسم الانتخابات البرلمانية في كلا البلدين، فإن المهزلة التي وقعت في مصر سوف يتغنى بها الانقلابيون على أنها انتخابات نزيهة ناجحة رغم أن نسبة المشاركة فيها لم تتجاوز أعداد الذين يخرجون في مظاهرة ضد الانقلاب على حد وصف أحد المتابعين، وسوف يطبل الإعلام الانقلابي لها على أنها جزء من إنجازات السيسي وإصلاحاته الجبارة!! انتخابات بائسة بؤس قناته التي تفسد ولا تصلح، وتقتل ولا تحيي، وتظمئ ولا تروي!!
أما أردوغان فسوف يخوض حزبه جولة إعادة بعد أن حصد أكثر من 40% من المقاعد في الجولة الأولى دون أن يمكنه ذلك من تشكيل الحكومة، وبين يدي تلك الانتخابات تتوالى الإنجازات الحقيقية على الأرض رعاية للبشر واحتراما لإنسانيتهم وإفاضة للخير على تركيا وجيرانها ومن حولها، إنجازات تنساب عذبة رقراقة كعذوبة مياه القناة التي شقّها عبر مياه البحر المالحة ليرسخ لإنسانية تكاد ينضب معينها في هذا الزمان.
ليس مهما أن يفوز حزبه بالأغلبية المطلقة كي يسجل التاريخ له تلك اللفتة الإنسانية، ففيما يتحدث التاريخ بإجلال وإكبار عن قناة زبيدة التي شقتها لسقاية الحجيج من زمزم إلى عرفات، فلن يغفل في مقدم الأيام الحديث بذات الإجلال والاحترام ذكر قناة أردوغان لإغاثة قبرص.