قضايا وآراء

فتية فلسطين بين الكيِّس والعاجز

محمد حسني عودة
1300x600
1300x600
فتية فلسطين ال  ذين نراهم في ذودهم بأرواحهم عن كرامتهم وعن مسجدنا الأقصى وعن كل فلسطين، هم ليسوا نسخة واحدة في ملامحهم وطباعهم وقوالبهم البدنية، فمنهم الملتحي ومنهم الحليق، ومنهم الطويل ومنهم القصير، ومنهم الذي يضع الهلام (الجل) على شعره ومنهم لا يضع، ومنهم قليل الشعر أو بدونه، ومنهم النحيف والأقل نحافة، وصفات أخرى متغايرة فيما بينها. لكنهم ومع تغاير صفاتهم الظاهرية البدنية، لهم تكوين معنوي متشابه لم يأت فُجأة مع اختلاف طبائع النفوس ومتطلبات الغرائز الإنسانية وتباين خصائص المشاعر والعواطف الداخلية. ذلك التكوين المعنوي المشترك الذي يتصدر المشهد وأنت تنظر بعين التمحيص لأولئك الفتية، فتكاد تكون في يقينك أنك أمام كيان معنوي واحد يمثل فتية فلسطين، الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة وقالوها "أف لكم ولما تعبدون من دون الله" لكل الظلمة والبغاة ومن في جوقتهم يساندونهم أفرادا غُسِلت أدمغتهم، وقيادات صهاينة ومتصهينين.
 
نعم، اليوم نجد أنفسنا أمام كيان معنوي ليس لفرد أو لفتى واحد في فلسطين الحبيبة، بل كيان يجمع فتية فلسطين، ذلك الكيان المعنوي الذي ربما لا تحتاج إلى متخصص وعالم نفسي لتفهمه مثلما تواجه إشكالية نفسية عند شخص ما لتفهم نفسيته الباطنة. أما هؤلاء الفتية، فكيانهم وملامحهم النفسية واحدة مع تغاير ملامحهم البدنية الظاهرة.   
 
كلنا يتذكر نبي الله زكريا عليه السلام وهو يناجي ربه خفيا، وذلك عندما اشتدت عليه علامات العتي في الكبر وقد وهن العظم منه واشتعل رأسه شيبا وكانت زوجته عاقرا، لم تلد له لا في فتوته ولا في صباه. في تلك المناجاة لم يكن فيها إلا متذللا لله عزوجل بعبوديته له. لم يكن بدعائه لربه شقيا أبدا. كانت مناجاته تلك مستشعرا عظمة ما سمعه من مريم عليها السلام وهي في المحراب والرزق حولها بمختلف أطيافه يلفت الأنظار، فسألها كما في الآية الكريمه: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) آل عمران).
 
تلك كانت مريم الفتاة العابدة في المحراب، خادمة دار العبادة في باحات المسجد الأقصى. من هناك ناجى زكريا ربه وهو في أشد مراحل عجزه بعدما سمع قول مريم "إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ"، راجيا من الله عز وجل أن يهبه وليا يحمل رسالته من بعده بسبب فساد قومه وعدم أهليتهم لحمل أمانة تبليغ دين الله، فكانت استجابة الله له مبشرا إياه بيحيى عليه السلام - الذي لم يجعل له من قبل سميا. 
 
ولكن كيف يمكن أن يقود يحيى تلك الرسالة ووراثة تبليغها وهو في ذلك الجو من العجز الذي من حوله؟ لذلك فقد آتاه الله الحكم وهو صبيا وأمده بحنانه حيث شيخوخة والديه، وزكاه فكان تقيا. جاءه الأمر من خالقه "خذ الكتاب بقوة" حتى لا تأخذه هوادة في تبليغ رسالته.
 
ألم يكن ذلك في مرحلة عجز، خرج من رحمها يحيى عليه السلام في صباه، يأخذ الكتاب بقوه ولكنه كان تقيا بمسبباتها؟ 
 
هل يمكن للفلاح أن يضع المحراث قبل الثيران ليتم حرث الحقل؟ وهل يمكن أن نحصل على النتائج التي نرنو إليها دون مسبباتها؟ 
 
الأمثلة كثيرة في عصرنا هذا وما سبقه …
 
 ألم تكن اليابان في عصور عجز في عهد الإقطاعيين التايكون أو الشوغون، عندما حكموها حوالي سبعة قرون منذ 1186م. ولكن عصر النهضة في اليابان بدأ في عام 1868م، عندما تخلصوا من هؤلاء الإقطاعيين اللذين عاثوا في البلاد والعباد فسادا. اليوم تجد الياباني قد لاحقتك تقنياته ومن لحقوا بهم من الصين وكوريا الجنوبية تضاهي الغرب الأوروبي والأمريكي بل هي تنافسه في عقر داره. 
 
فتية فلسطين عايشوا هذه التقنيات الحديثة، واستخدموها وتقلص الفارق الرقمي بينهم وبين العالم بأسره الذي يتابع ظاهرتهم. هؤلاء الفتية لا نتوقع أنهم قرأوا كتابات شكيب أرسلان ولا كتب مالك بن نبي في القرن الماضي مثلما قرأ الكثير منا، ولا نتوقع أنهم قرأوا كتاب أحمد رضا (التركي) "الإفلاس الغربي للسياسة الغربية في الشرق: .. كلمات كان المفكر الإسلامي المعروف مالك بن نبي يقرض منها في كتاباته وهو يشخص للإصلاح في الشقيقة الجزائر إبان انفكاك مرحلة الاستعمار الأرضية وليس الفكرية التي كان من خير من تصدى لها. لم يحتج هؤلاء الفتية لقراءة هذه الكتب بل ولدوا وهم في ظلال العجز يلمسونه ويعايشونه بأنفسهم.
 
ما فتئ فتية فلسطين أن وجدوا أنفسهم أمام جيل متهالك على بيعه لعدوه، واستئصال شأفة من يهمس لمقاومة عدوه .. جيل هؤلاء الفتية وجد نفسه أمام جيل سابق تمنى على الأمم المتحدة أن تحل له قضية فلسطين بطريقتها، وهم في الوهن قابعون معتمدين على فصل قوانينها السابع "ما يتخذ من الأعمال في حالات تهديد السلم والإخلال به ووقوع العدوان".. من المادة 39 إلى المادة 51، وقراراتها التي تتوقف عن الدولة الوليدة الصهيونية بكل أدوات القمع والإرهاب والفصل العنصري، ومجلس أمن لهم والذي هو في أساسه قائم على تركيبة ظالمة.  
 
لا نشك أن فتية فلسطين لم يخططوا سوية لما يحدث في أيامنا، ولا تجمعوا في جلسات سرية، ولكن كيانهم المعنوي الداخلي قد تلاقى كما تتلاقى وتتآلف الأرواح المجندة .. ذلك الكيان وتلك الصورة التي عجز السجان القريب والبعيد، الصهيوني والمتصهين، أن يتوقعها أو يحسب لها حسابا مع كل ما حاولوا ويحاولون زرعه من ثقافات الضرار والسلم لعدوك والقتل لك بطريقة مقننة. 
 
وكم نحتاج لمثل هؤلاء الفتية لتطوير مقاومتنا ضد المحتل والباغي والغاصب، مقاومة تتطور في أبسط صورها والتي علق عليها الأكاديمي والمفكر الفلسطيني الدكتور عبدالستار قاسم في مقالته "بين الانتفاضة والمقاومة" عندما قال: "المقاومة عدة مراتب، وتشكل المقاطعة بكافة أشكالها أولى مراتب المقاومة، يعمد الذي يصاب بالأذى إلى مقاطعة المحتل اقتصاديا وثقافيا وسياسيا وتجاريا وعلميا...الخ، ولا يقيم مع خصمه أي علاقة سوى علاقة المواجهة. تتمثل المرتبة الثانية بالعصيان المدني الجزئي والذي يتضمن التمرد على بعض القوانين والتعليمات التي يسنها المحتل بهدف تعقيد قدراته على ملاحقة الناس".
 
فتية فلسطين أدركوا جيل آبائهم ، فمن الآباء من قاوم وأسر واستشهد (من نحسبهم كذلك) ومنهم من انبطح إنبطاح الشاة عندما ذبحت .. لقد عاين هؤلاء كل ذلك، ولكن بعين ذلك الإنسان الفتي في صباه الذي حاول تقييم المستقبل والواقع والماضي، وما يرى حوله من اضطهاد جسدي ونفسي وحرمانه أرضه، وقطعان المغتصبين يغتصبون حقوقه، ويحرمونه قوته ومأمنه ومسكنه، ويتعدون على حرماته وعرضه ومقدساته.
 
فتية فلسطين وفي مقتبل عمرهم الذي هم فيه، عجز الكثير منا في جيلهم أن يكونوا مثلهم، رأوا العجز من ذوي القربى قبل غيرهم، بل إنهم ذاقوا المر والعذاب منهم ومن غيرهم .. هؤلاء رأو العاجز يتمنى أن تهب له قطعة أرض هنا أو هناك مندفعا وراء أهواء نفسه دون أن يروا من يجأر بصوته فيقولها لهم معتذرا "لقد حاسبت نفسي وأخطأت في حقكم وقد فشلت فدعوني أرحل وتقودوا أنتم"!!! هؤلاء الفتية رأوا ابن العلقمي وإخوانه يشدون على أيدي الظالم وفيالق قدسهم توجهت سهاماها تؤازر الظلم والطغاة بل قتل النفس التي حرم الله. 
 
فتية فلسطين يبحثون عن ذلك الكيّس الذي يدين نفسه لا من يتبع هواها فيُضلهم ويُخسرهم في دنياهم وآخرتهم .. ندعو الله أن يكون فتية فلسطين ممن نحسبهم قد تمثلوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المروي عن شداد بن أوس "‏الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني‏"‏ (‏رواه الترمذي  كحديث حسن‏)‏‏.
 
ندعو الله لمن باعوا أنفسهم لله سبحانه أن يكون بيعهم قد ربح، وأن يكون فتية فلسطين هم الجيل الكيّس الذي نحلم به، ليعم الخير على فلسطين ومن حولها والأمة الإنسانية قاطبة .. اللهم آمين.
1
التعليقات (1)
د خالد مبسلط
السبت، 24-10-2015 11:14 ص
شكرا اخي د محمد. على مقالك الراءع. انهم فتية امنوا بربهم وزدناهم هدى