الخلاص من إرث الحكم العسكري في
تركيا معركة متواصلة منذ الستينيات بشكل هادئ ومتدرج، لكنها تحولت إلى معركة جذرية مع وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة في العام 2002، ومنذ ذلك الوقت وحتى إعلان نتيجة الانتخابات النيابية الأخيرة شهدت هذه المعركة عدة جولات حامية الوطيس نجحت في تحجيم العسكر، ونزع أنيابهم، ومعهم أيضا أذرعهم الإعلامية والقضائية والتعليمية عبر سلسلة من التعديلات الدستورية والمعارك السياسية والأمنية والإعلامية.
كان السلاح الأبرز في معركة التخلص من إرث الحكم العسكري هو التعديلات الدستورية المتتالية، لكنها لم تكن الهدف الرئيسي بل كان الهدف دوما هو الإجهاز التام على دستور 1982 الذي يجري العمل به حاليا والذي وضعه العسكر عقب انقلاب كنعان إيفرين 1980، ولم يكن هدف صياغة دستور جديد بروح مدنية كاملة قصرا على الإسلاميين بل شاركهم في هذا الهدف كل الأحزاب السياسية العلمانية لإدراك الجميع مدى التشوه الذي يتضمنه ذلك الدستور وتأصيله لحكم الدولة العسكرية العميقة.
عقب إعلان نتائج الإنتخابات البرلمانية الأخيرة والتي منحت حزب العدالة والتنمية أغلبية مريحة تمكنه من تشكيل الحكومة منفردا، جدد الرئيس التركي ومؤسس الحزب رجب طيب أردوغان دعوته إلى اعتماد دستور جديد بديل لدستور كنعان ايفيرين، في إطار مسعاه (أي أردوغان) للتخلص من إرث السنوات العجاف للحكم العسكري الذي بدأ مع الجنرال كمال أتاتورك المنقلب على الخلافة العثمانية التي كانت تمثل حكما مدنيا، وانتهاء بالرئيس الأسبق أحمد نجدت سيزر آخر رؤساء الحقبة العسكرية، مستغلا في ذلك الرغبة التركية في دخول الاتحاد الأوروبي والذي قدم لتركيا مجموعة مطالب واشتراطات لقبول عضويتها، معظمها في مجال الحقوق والحريات ودولة القانون، وإبعاد العسكر عن السياسة.
لم تكن مواجهة إرث الحقبة العسكرية والدولة العميقة في تركيا بالأمر الهين، فقد كادت تطيح بالحزب ذاته، وهي التي أطاحت باربعة أحزاب إسلامية من قبل هي "النظام الوطني" و"السلامة" و"الرفاه" و"الفضيلة" ( أسسها جميعا القائد الراحل نجم الدين أربكان)، ناهيك عن سحقها للعديد من الأحزاب المدنية الأخرى، ولعلنا نذكر أن أردوغان نفسه ظل سجينا لبعض الوقت كما ظل محروما من مباشرة العمل السياسي حتى تمكن حزبه من إدخال تعديل دستوري سمح له بالعودة للعمل السياسي عام 2002، كما نتذكر أن حزب العدالة والتنمية كان في مهب الريح في العام 2008 بدعوى خروجه على القيم العلمانية، ولولا بعض الإصلاحات السياسية والقضائية المتدرجة التي نفذها الحزب من قبل لكان مصيره الحل وتصفية الممتلكات، إذ إن المحكمة الدستورية حكمت بفارق صوت واحد فقط وبعد سلسلة من المداولات بالإبقاء على الحزب مع حرمانه من الدعم الحكومي.
جرعات متصاعدة من التعديلات الدستورية نفذها "العدالة والتنمية" خلال الأعوام 2002 و2004 و2008 و2010، تمكنت حتى الآن من نزع أنياب العسكر، وإفقادهم للقوة التي كانوا يستندون إليها، والتي كانت تتيح لهم – وبحكم القانون- التدخل بانقلابات عسكرية ضد أي سلطة مدنية لاتروق لهم بدعوى خروجها على القيم العلمانية، وقد حاول العسكر أن يكرروا هذه الانقلابات مع أردوغان وحزبه سنوات 2003 و2007 و2008 فيما عرف بقضايا "المطرقة" و"شبكة أرجينيكون" أو ما سمي بالتنظيم الموازي أو الدولة الخفية، لكن الحزب قد أصبح مسيطرا بدرجة سمحت له بكشف هذه المحاولات الانقلابية وتقديم قادتها لمحاكمات حكمت عليهم بالسجن المشدد أو مدى الحياة، وهو ما أقنع القيادات العسكرية بالتراجع عن خططها الانقلابية لاحقا نتيجة شعورها بالضعف.
حين أعلن حزب العدالة والتنمية ضمن برنامجه الانتخابي في يونيو الماضي عن تبنيه لخطة صياغة دستور جديد، تحركت القوى المناوئة ضده، وسوقت هذه القوى والتي تقف خلفها الدولة العميقة ومنها بقايا شبكة أرجينيكون، فكرة أن التعديلات تستهدف الانتقال إلى النظام الرئاسي مجاملة لأردوغان الطامح أن يكون سلطانا جديدا، وهو ما رددته وسائل الإعلام الغربية والعربية المناوئة لأردوغان أيضا، بينما الحقيقة تكمن في الحرص على التخلص الكامل من بقايا الحكم العسكري التي لا يزال الدستور القائم منذ انقلاب 1980 هو محورها، ولأن حزب العدالة والتنمية قرأ جيدة رسالة الشعب التركي عقب انتخابات يونيو الماضي التي حرمته من أغلبيته المريحة وأجبرته على خوض انتخابات جديدة، وأن الرسالة تطلب منه عدم التعجل في قضية الدستور دون توافق مع الفرقاء السياسيين، فإن رئيس الوزراء داود أوغلو أرسل في خطاب النصر عقب الانتخابات الأخيرة العديد من رسائل الطمأنة لكل القوى بأنه سيتشاور معها في القضايا الكبرى رغم حصوله على أغلبية برلمانية، ومن هنا فمن المتوقع أن لا يلجأ حزب الحرية والعدالة لفرض التغيير الدستوري من خلال البرلمان حيث يحتاج فقط 50 صوتا يستطيع أن يؤمنها من خلال التفاهم مع أحد الأحزاب الفائزة، لكنه سيعمد إلى إجراء حوار مجتمعي واسع حول الدستور الجديد بهدف بناء قاعدة واسعة داعمة له قبل عرض الأمر على استفتاء شعبي عام.