جاءت
أزمة الإخوان المسلمين الأخيرة وسط تقلبات عالمية كبرى يمكن أن تطيح بجماعات كبرى أو دول، أو أن تنشئ حتى دولا جديدة لم تكن قائمة من قبل، في إطار إعادة هندسة العالم الجديدة لتنسف الهندسة السابقة الناتجة عن اتفاقيات سايكس بيكو.
جماعة الإخوان بدورها هي جماعة عضوية يجري عليها ما يجري على أي كيان عضوي من النمو والمرض وحتى التحلل، وكل ذلك مرتبط بمدى تفاعل الجماعة مع هذه المتغيرات العالمية، فإن وضعت نفسها فاعلا أصيلا بما تمتلكه من إمكانيات النفوذ والانتشار فإنها ستصبح حتما من صناع العالم الجديد، وإن قبلت الانكفاء على مشاكلها الداخلية ورفضت التجديد، والتفاعل الإيجابي فقد تعرض نفسها لما لا تحمد عقباه.
يمكن رصد أبرز التحولات العالمية الجارية حاليا فيما يسمى بالحرب على الإرهاب، وتمدد تنظيم الدولة واستقطابه للكثيرين، والنزاع بين روسيا وتركيا، والانسحاب الأمريكي الهادئ من المنطقة، وحربي اليمن وسوريا والتسوية السياسية في ليبيا، وتراجع الربيع العربي عموما، وانتهاء الأزمة النووية بين إيران والغرب، والتمدد السياسي الشيعي الواسع في بقاع كبيرة من العالم، والتراجع المستمر لأسواق النفط العالمية وما يترتب عليه، وأخيرا صدور نتائج التحقيق البريطاني حول الإخوان المسلمين أنفسهم.
في ما يخص الحرب على الإرهاب التي شكلت الدول الكبرى لها تحالفا دوليا واسعا وزاد زخمها بعد تفجيرات باريس التي أودت بحياة 130 فرنسيا، فإنها تركز الآن على محاربة تنظيم داعش تحديدا، لكن علينا أن ننظر إلى ذلك باعتباره خطوة تكتيكية لتركيز المعركة في الوقت الحالي ضد عدو واحد حتى يسهل حسمها، وبعد الانتهاء من هذا العدو فإن المعركة ستتجه إلى جماعات أخرى ترى بعض دول التحالف أنها تمثل خطرا على السلم الدولي، ورغم أن قائمة الجماعات المسلحة التي تحل تاليا لتنظيم داعش كثيرة ومتعددة، إلا أن الخوف من ضم تنظيمات جديدة ومنها الإخوان المسلمين وخاصة بعد التقرير البريطاني الأخير يظل أمرا قائما مالم تتحرك الجماعة دوليا عبر دبلوماسية نشطة تسمح لها بكسب صداقات دولية جديدة، وتأكيد حقها وحق الشعب المصري كله في مقاومة الاستبداد وعدم اعتبار ذلك إرهابا، بل مخاطبة العالم باللغة التي يفهمها وهي أن وجود واحتضان الأنظمة القمعية هو الذي ينتج العنف والإرهاب وهو الذي يدفع الشعوب العربية والإسلامية للهجرة إلى أوروبا والغرب بحثا عن الآمان والحرية.
رغم أن التقرير البريطاني لم يصف الإخوان بالإرهاب، إلا أن الضغوط التي وقفت خلف صدوره ودفعت المليارات من أجله، لن تتوقف عن مساعيها مالم يقابلها تحرك قوي من الإخوان أنفسهم لدحض التقرير، ومقاضاة واضعيه، وفضح من يقفون خلفه، وهذا يحتاج إلى قيادة موحدة رشيقة قادرة على التحرك السريع، والرشيق، واستخدام كل الوسائل المشروعة سواء السياسية أو الحقوقية أو الإعلامية (الإعلام الدولي) في هذه المعركة، حتى لا تترك المجال لشياطين الخليج لممارسة المزيد من الضغوط على بريطانيا والغرب، وحسنا أن الجماعة حسمت أمرها فيما يخص تسليح الثورة، وأصبح طرفا النزاع فيها يتحدثان لغة واحدة رافضة للعمل المسلح، فهذا مما سيسهل على الجماعة تحركها الدولي.
بالإضافة إلى التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، دشنت المملكة العربية السعودية تحالفا إسلاميا يضم 34 دولة إسلامية سنية أيضا لمحاربة الإرهاب، ورغم تعثر ولادة هذا التحالف والشكوك التي تحيط ببقائه إلا أنه يمثل تحديا على الإخوان الانتباه له خاصة أن تصنيف السعودية للإخوان كجماعة إرهابية لا يزال ساريا رغم وفاة الملك عبد الله وتولي الملك سلمان، وقد وضعت صحيفة الوطن السعودية القريبة من دوائر صنع القرار الإخوان كثالث أخطر جماعة قبل تنظيم القاعدة وولاية سيناء وحزب الله والحوثيين وغيرهم من جماعات العنف، وهذا يعطي مؤشرا لضرورة التحرك السريع قبل أن تنتقل هذه العدوى من ذلك المنبر الإعلامي إلى غيره من المنابر ليشكل وعيا عاما قابلا بهذه الفكرة الجهنمية، خاصة أن دولا رئيسية في هذا التحالف الإسلامي مسكونة بعدائها للإخوان وعلى رأسها مصر التي قبلت الدخول في هذا التحالف لتضع على طاولته مشكلتها مع الإخوان جنبا إلى جنب مشكلتها مع تنظيم داعش في سيناء، وكذا دولة الإمارات الجاهزة دوما لإنفاق نصف ثروتها للخلاص من الإخوان.
تتداخل معطيات التحالف الإسلامي مع الأزمة الروسية التركية مع أنباء تعزيز التعاون التركي الإسرائيلي، ومع التحالف السعودي التركي الصاعد والذي يستهدف السعوديون ضم مصر إليه، وفي سبيل ذلك يحاولون إقناع الأتراك بالتخلي عن دعمهم لقضية الديمقراطية في مصر وعن دعمهم للإخوان الذين وصفهم الكاتب السعودي المقرب من دوائر السلطة عبد الرحمن الراشد بأن وزنهم صفر الآن، ورغم أن وصف الراشد يعبر عن قناعاته السياسية المعادية للإخوان بالأساس وليس تعبيرا عن واقع، فإن قطاعات سعودية نافذة تحاول تسويق هذه الفكرة، وهذا ما يستدعي تحركا لدحضها، والرد عليها، والتحذير من مغبة تصديقها، وهنا يجدر القول أيضا أن الأزمة الحالية التي تمر بها جماعة الإخوان يمكن أن تتخذ ذريعة لتأكيد إدعاءات الراشد، وإقناع الحكومات الصديقة للإخوان بالتخلي عنهم ولو بشكل تدريجي تجنبا للمزيد من الضغوط عليهم(أي على الحلفاء) وحتى يحسم الإخوان خلافاتهم.
يعيش النظام الانقلابي المصري أسوأ أيامه حاليا، وتتصاعد علامات فشله وعدم قدرته على تحقيق أي إنجاز للشعب المصري، وافتضاح الأوهام التي حاول أن يسوقها للمصريين، وكذا تراجع الدعم الخليجي الناتج عن تراجع أسعار النفط واضطرار الدول الخليجية للسحب من ودائعها الاحتياطية، ولكن هذا النظام يستمد أسباب بقائه الآن من ضعف خصومه وتنازعهم وفي القلب منهم الإخوان المسلمين، وكذا بمحاولة تقديم نفسه كعنصر رئيسي في الحرب على ما يسمى بالإرهاب، وهو زعم يمكن نسفه سريعا إذا تمكنت القوى الرافضة للانقلاب من إعادة تنظيم صفوفها ونحن على أعتاب موجة ثورية تواكب الذكرى الخامسة لثورة يناير، وتقديم نفسها باعتبارها قيادة موحدة لثورة سلمية تبحث عن الحرية، وتنظيم تحركات جماهيرية قوية تحطم جدران الانقلاب، وتقنع الشعب باللحاق بها، وإقناع شعوب العالم بدعمها، وتعرية النظام دوليا، ونزع ورقة الإرهاب التي يدغدغ بها العالم.
لدى الإخوان ما يواجهون به تلك المؤامرات الإقليمية عليهم عبر انتشارهم في كل دول الإقليم، وقدرتهم على التأثير في الملفات اليمنية والسورية والليبية، وكذا في قدرتهم الكبيرة التي قد تعجز عنها دول في مواجهة التمدد السياسي الإيراني في المنطقة، وعبر إقناع العالم والإقليم بأن غيابهم سيكون وبالا على المنطقة كلها، ولن يتحقق شيء من ذلك قبل أن يحقق الإخوان وحدتهم وتماسكهم.