الهزل للهزل، والفكاهة للفكاهة، هذا ما يميز التعامل مع قصة الطائرة
المصرية "المخطوفة"، وفي الواقع إن الاستغراق في السخرية صار تصرف الرافضين لأهل الحكم في مصر على ممارساتهم، على نحو انتقل بنا إلى "مسرح إسماعيل ياسين"، فلا توظيف للسخرية، وإذا كانت النكتة عُرفت تاريخيا بأنها سلاح المصريين في مواجهة حكامهم، فإن "رد الفعل" الساخر إلى ما لا نهاية، يسقط فكرة السلاح، ويجعلنا أمام موقف عبثي أنتجته حالة سكر، وليس كاشفا عن درجة متقدمة من الوعي!
أعلم أن تفاصيل عملية الاختطاف المزعومة للطائرة المصرية حولت الأمر إلى فضيحة يتغنى بها الركبان، وأعلم كذلك أن هناك من يرون ضرورة مواجهة الانقلاب العسكري بالسلاح الذي تم استخدامه في الحرب على الرئيس محمد مرسي، وهو تصيد المواقف والتصرفات له، بهدف "استهيافه" والحط من هيبته، وقد وفر لهم أهل الحكم "المادة الخام" للسخرية منهم، دون افتعال أو تصيد، وبالتالي ينبغي إسقاط هيبة السيسي، كما أسقطوا هيبة الرئيس المنتخب، فات هؤلاء أن السخرية من الدكتور مرسي كانت تستهدف في النهاية الوصول إلى نقطة مهمة، هي التي عبر عنها إعلام الثورة المضادة بالقول: "مصر كبيرة عليك"، تمهيدا لإسقاطه، وإذا كانت السخرية من قائد الانقلاب نجحت في إسقاط الهالة، التي صنعت له بداية من وصفه بالمسيح، ومرورا بأنه نبي مرسل نساؤهم حبلى بنجمه، ومرورا كذلك بأنه أعظم قائد عسكري بعد أيزنهاور، وأنه عبد الناصر، وانتهاء بأنه "الدكر"، فإن التمادي في "الظُرف" والاستخفاف، لا يجعلنا نلتفت إلى ما هو أهم من إسقاط الهيبة، عندما نتجاوز السخرية إلى الدروس المستفادة من وراء القضية المثارة، والأمر لا يسري فقط على موضوع الطائرة!
"الجنين في بطن أمه"، لا يمكن أن ينطلي عليه بعد متابعة تفاصيل علمية اختطاف الطائرة ما قيل لإثبات جدية عملية الاختطاف، التي بدا واضحا أن السلطات القبرصية ضالعة فيها مع صديقتها في القاهرة، بدءا من الحديث عن الدوافع الشخصية وراء العملية، كما قال الرئيس القبرصي، بأن الهدف أن يلتقي الخاطف بمطلقته، التي ألقى لها بيانا على درج الطائرة، وانتهاء بما أذاعته الإذاعة القبرصية في وقت لاحق من أن الدوافع سياسية وأن الخاطف يطالب بإطلاق سراح معتقلات، بينما تبين أن سيادته يجلس في مؤخرة الطائرة يحتسي قدحا معتبرا من الشاي، وتجلس أمامه مضيفة تتحرك بأريحية وتحتسي قدحا من "النسكافيه"، قبل أن تأتي له زميلتها لتستأذنه في أن أحد المختطفين يطلب التصوير معه "سيلفي"، وقد شاهدنا صورة لزميلة لها كأنها تقف بجانب فنان مشهور، ولم يكن صاحبنا مشغولا بالمختطفين، ولا نعرف لماذا قرروا أن يكونوا مختطفين، والرجل يضع عينه على الأرض ويتجاذب أطراف الحديث مع جليسته، في انتظار انتهاء دوره في هذا الفيلم الهابط!
من جديد بدأ الحديث عن المطلقة، وقد أجرت معها الصحف القبرصية مقابلات كما قيل، واللافت أنه قيل إن الهدف من عملية الخطف هو مقابلة مطلقته التي هي قبرصية تقيم في قبرص، ثم يقال إنه خير قائد الطائرة بين الهبوط في قبرص أو تركيا، ولماذا تركيا؟ لا أحد يعلم الإجابة إلى الآن!
ثم قال مساعد الكابتن، إن الخاطف كانت له مطالب سياسية معادية، "وبعد الهبوط في مطار قبرص طلب منا الذهاب لدولة في الشرق الأوسط معادية".
لم يذكر سيادته اسم هذه الدولة، ربما خوفا على المشاعر الرقيقة للخاطف، كما لم يذكر لنا هذه المطالب السياسية المعادية، لاسيما وقد تمت العودة من جديدة لقصة المطلقة التي روت للصحف تاريخ العلاقة الزوجية مع الخاطف؟!
لا أحد يجيب على الأسئلة المنطقية في هذا الحادث مثل من فتح "قمرة القيادة" للخاطف ليهدد قائد الطائرة، وهي مغلقة لا تعرف طريقة فتحها بالأرقام السرية سوى مضيفة واحدة يجري اختيارها في الرحلة، لمهمة خدمة كابتن الطائرة، فضلا عن أن زجاج الطائرات بعد أحداث سبتمبر صار من النوع المضاد للصواريخ، وهناك إشارة للمضيفة يتفق عليها تلفت بها نطره إذا تم أمرها تحت التهديد بفتح قمرة القيادة، بالأرقام السرية التي تعرفها!
ولا نعرف ما هو دور رجل الأمن في الطائرة، ولم يُذكر له أي دور بطولي ، بل لم يقم بأي دور على الإطلاق إلا أنه تحول إلى "مخطوف"، فهل يتقاضى راتبه، ويشغل كرسيا في الطائرة من أجل أن يقوم بدور "المخطوف"؟!
ولم تتم الإجابة على سؤال حول السر الدفين وراء خضوع قائد الطائرة، بالاستجابة لمطلب الخاطف بالهبوط في مطار قبرص؟، فكيف سيعرف الخاطف الفرق بين الأجواء القبرصية وأجواء القاهرة، إن أكمل رحلته بشكل طبيعي وهبط في مطار القاهرة الدولي حيث مطار الهبوط ونهاية الرحلة، أو حتى إذا عاد إلى "برج العرب" مطار الإقلاع، فلسنا في موسم السحابة السوداء، التي بمجرد أن يراها الخاطف يعرف أن الطائرة تحلق في الأجواء المصرية!
لا بأس، فالبأس الشديد، عندما تقرر السلطات القبرصية التحقيق في وقائع عملية الاختطاف، وتقرر النيابة العامة هناك حبس المتهم ثمانية أيام، فلا تصد السلطات المصرية ولا ترد، مع أنه وبحسب القانون الدولي، فإن الطائرات هي جزء من تراب البلدان التابعة لها، وهي تخضع بالتالي لقوانينها وإن حطت في بلاد "الواق واق"، ولأن وقائع الجريمة كلها وقعت في الطائرة المصرية، بما في ذلك احتساء الخاطف كوبا من الشاي في حضرة المضيفة التي كانت تحتسي قدحا من النسكافيه، فإن محاكمته في مصر هي من المعلوم من القانون الدولي بالضرورة!
وقد صرح النائب العام القبرصي أن تسليم المتهم لمصر هو قرار سياسي. على نحو يسقط الادعاء بأن محاكمته هناك إجراء قانوني من حق السلطات القبرصية!
الملاحظ، أن أهل الحكم في قبرص، يعملون على "تبريد" الموضوع، لأن إعادة "الخاطف المزعوم" للقاهرة مبكرا ومحاكمته، ستمكن من الوقوف على الحقيقة، حتى وإن قال هو عكسها تحت الإكراه، أو بناء على اتفاق سابق، فالتناقض في أقواله في المحاضر الرسمية وهو من لم نسمع له حتى الآن سيكشف لنا حجم المهزلة، التي جرى افتعالها للتغطية على كثير من جرائم الانقلاب!
فليست قضية عزل هشام جنينة رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات بالمخالفة للدستور ولحربه على الفساد هي ما أراد النظام الانقلابي لفت الأنظار بعيدا عنها، وهو الذي تقدم بـ (437) بلاغا في وقائع فساد تم رفض التحقيق فيها، وقد حل محله من لديه ملف فساد وضعه جهاز المحاسبات، على النحو الذي ذكره "عبد الحليم قنديل" الصحفي المقرب من "عبد الفتاح السيسي"!
فالشاهد أنه إذا كانت الليلة السابقة قد شهدت قرار العزل، وقد صدر في (أنصاص الليالي)، فإنه في عصر اليوم السابق كانت مذبحة القضاة، التي تمثلت في قرار عزل (32) قاضيا، في مذبحة لم تعرفها مصر منذ المذبحة التي قام بها جمال عبد الناصر، يعزل فيها مائتي قاض، عادوا إلى مواقعهم بعد وفاته!
وبينما المسرح الهزلي منصوب، تم تمرير تصريحان في موضوع سد النهضة من أخطر ما يمكن لوزيرين في سلطة الانقلاب، لا تستطع من هول ما قالا أن تعرف ما إذا كانا مصريين أم أثيوبيين!
الأول تصريح وزير الخارجية، بعد أن انتهت وصلة " ميكرفون الجزيرة" نصه: " سد النهضة حق لأثيوبيا ولا نستطيع إنكار ذلك"!
أما وزير الري الجديد، فقد صرح بأن "سد النهضة أصبح أمرا واقعا ولا فائدة من البكاء على اللبن المسكوب". ولم يبق إلا أن يحرك يديه كما تفعل النساء في الأحياء الموغلة في الشعبية، على إيقاع أغنية "فريد الأطرش" يا عوازل فلفلوا!
أتمنى أن نتوقف عن "الاستغراق في السخرية"، التي تمكن النظام الانقلابي من تمرير جرائمه في حق الأمن القومي المصري، فإن كنا نستهدف من الفكاهة إسقاط هيبة "عبد الفتاح السيسي" فقد سقطت منذ وقت مبكر، وبقي أن ننتبه إلى ما يحاك ضد مصر في هذا الجو العبثي الذي نصنعه بأنفسنا!
مصر في خطر، ومنا من يتصرفون كالسكارى!