ما ذكرته في المقالات الثلاثة السابقة، كان عن مقابلات لحسن البنا مع رموز العمل السياسي والإسلامي، ومراجعاته حول عمل الإخوان السياسي، والوضع الأمثل للجماعة، وفصل الحزبي عن الدعوي، وكيف يكون، وقد صارت فكرة العمل السياسي من خلال حزب صاحب مبادئ، تسيطر على تفكير حسن البنا في أخريات أيام حياته، وهو ما وضحته في ما سبق من شهادات ومراجعات، وهي صفحة مهمة في تاريخ جماعة الإخوان والعمل السياسي.
وقد كتب الأستاذ فتحي رضوان رحمه الله، والذي كان أحد كوادر الحزب الوطني الذي أسسه الزعيم الراحل مصطفى كامل، كتب مرتين عن توجه حسن البنا الأخير في كيفية العمل السياسي للإخوان. يقول فتحي رضوان: (في شتاء 1948م كنت دائم الاتصال بالمرحوم الأستاذ البنا وقد أسفر هذا الاتصال عن تفكيره رحمه الله جديا، في أن يحيل نشاط الإخوان المسلمين السياسي إلى الحزب الوطني، وأن يقتصر عمله هو ودعوته على الناحية الدينية البحتة) انظر: جريدة الأهرام
المصرية العدد الصادر في 29 أكتوبر سنة 1950م. وهو ما أكده محمود عبد الحليم، ونقله نقل الموثق له، انظر: الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ الجزء الثاني ص: 121-124.
وفى 19 فبراير سنة 1976 عاد الأستاذ فتحى رضوان للموضوع مرة أخرى بتفاصيل جديدة مهمة، فكتب مقالاً في جريدة الجمهورية تحت عنوان (قبل أن يغتالوا حسن البنا)، أكد ما ذكره من قبل في جريدة الأهرام عن التوجه الأخير لحسن البنا، ورغبته السابقة في إحالة العمل السياسي لمنتسبي جماعة الإخوان للحزب الوطني، فقال: (وكانت هذه الرغبة تؤرق الأستاذ المرشد على ما بدا لي، لأنه كان يرى هذه المساهمة فرضًا وطنيًّا على الجماعة يجب أن تؤديه، ولكنه كان يرى في الوقت نفسه أن هذه المساهمة بصورتها التي فرضتها الأحداث من جهة، ورغبة عدد من زعماء الإخوان من جهة أخرى؛ قد تحجب الأصل الذي قامت عليه الإخوان، وهو كونها جماعة دعوة وإرشاد، وتهذيب للنفوس، ورد الناس إلى دينهم، واستلهامه في شؤون دنياهم وآخرتهم، ولا يغير من الأمر أن يكون الإسلام دينا ودولة، وسيفا ومصحفا، فرسالة جماعة الإخوان المسلمين الأولى هي تقويم الجانب الديني من حياة المصريين أولا، والمسلمين عامة ثانيا، باعتبار هذا التقويم مدخلاً مباشرًا لتقدم حياة المصريين والمسلمين في جميع دروب وفروع الحياة، والاستغراق في العمل السياسي، وما يجره من معارك، لا شك صارف الجماعة، ولو إلى حين عن كفاحها الذي نصبت نفسها له أولا..
لهذا كله قال الأستاذ حسن البنا: إنه فكر طويلاً ليخرج من هذا المأزق الذى أوصلت إليه مجريات الأمور الجماعة، فرأى أن أفضل الحلول هو أن يرفع عن شـُـعب الإخوان المسلمين في كل مكان اسم الجماعة، ويضع عليه اسم الحزب الوطني، وأن يخير الإخوان بين أن يبقوا في الجماعة للنشاط الديني البحت، أو أن ينقلوا نشاطهم إلى الحزب الوطني، قال ضاحكا: فيبقى معي الدراويش، أما الذين لهم طموح سياسي، ولهم قدرة على تحقيقه، ورغبة في مكابدته، فالحزب الوطني خير ميدان لهم، أطمئن عليهم فيه، وأطمئن أنا إليه، فلم تبد عليّ الدهشة لسماع هذا الكلام، فقد عرفت منه مرارًا حسن ظنه بالحزب الوطني، ولطالما سمعته يثني على جهاد مصطفى كامل ومحمد فريد ويترحم عليهما).
هذه شهادة فتحي رضوان نقلها عن حسن البنا، اقترح فيها البنا رفع اسم الجماعة عن شعب الإخوان، وأن تبقى جماعة إسلامية، ويتحول السياسيون فيها للحزب الوطني، وبخاصة من لهم قدرة عليه، وهو بذلك يميز تماما بين الإخوان الدعاة، وبين السياسيين منهم، ومن يصلحون للعمل السياسي، وهي مراجعة مهمة وتاريخية في جماعة الإخوان المسلمين. أعتقد أن من قاموا بتأسيس حزب الحرية والعدالة في مصر، والقسم السياسي في الجماعة لا علم لهم بتفاصيل هذه التجربة، وإلا لبنوا عليها، بدل القيام بتجربة حزبية من الصفر.