اعتاد أبو مروان، وهو مهندس مصري يعمل في السعوديةن أن يحول لزوجته بعض الأموال شهريا عبر حسابها
المصرفي، لكنه اتجه منذ العام الماضي إلى متعاملي السوق السوداء الذين يعرضون عليه سعرا أعلى للدولار ما دام يسلمهم الأموال في الخارج.
يقول أبو مروان الذي يتقاضى 10 آلاف ريال شهريا تساوي نحو 2600 دولار: "لم نعد أنا وزملائي نقوم بأي تحويلات من البنك بسبب الخسائر، لأن السعر الرسمي للدولار حوالي ثمانية جنيهات، في حين أن السعر في السوق أكثر من 11 جنيها".
وأوضح أن أحد متعاملي السوق السوداء عرض عليه تسلم المبلغ الذي يريد تحويله في الرياض، بينما يقوم آخر بتسليم ما يقابله بالجنيه لزوجته في مصر.
ويضيف: "نحن نتفق على السعر عبر الهاتف وأسلمه
الدولارات، وفي الوقت نفسه يقوم تاجر آخر بتسليم زوجتي المبلغ بالجنيه".
تجارة غير مشروعة
وتدفع جهود الحكومة الرامية للقضاء على التجارة غير المشروعة للعملة تجار السوق السوداء إلى تنفيذ صفقاتهم بالخارج بعيدا عن طائلة القانون، وهو ما يحرم
الاقتصاد من آخر مصدر حيوي للنقد الأجنبي.
ويقول التجار إنهم يسعون إلى اجتذاب الدولارات التي يحوزها العاملون والمصدرون بالخارج قبل دخولها البلاد، وهو ما أدى لتفاقم حدة نقص الدولار في ظل أزمة العملة التي قوضت الاستثمارات وعصفت بقطاعي التجارة والصناعات التحويلية.
ويرسل المصريون العاملون في الخارج إلى بلادهم تحويلات بقيمة تقارب 19 مليار دولار سنويا. وتشكل تحويلات العاملين في الخارج مصدرا مهما للعملة الصعبة للبلاد التي تضررت فيها السياحة والاستثمارات الأجنبية والتصدير بفعل الاضطرابات السياسية التي أعقبت انتفاضة 2011.
إجراءات صارمة
وسعى البنك المركزي للقضاء على السوق السوداء عبر عدد من الإجراءات الصارمة مثل إلغاء تراخيص مكاتب الصرافة التي تتعامل بسعر أعلى كثيرا من السعر الرسمي.
وخلال الشهر الحالي وافقت الحكومة على مشروع قانون يقضي بفرض عقوبات بالسجن على من يبيعون العملة الصعبة خارج القنوات الرسمية بجانب غرامات بملايين الجنيهات.
لكن الفجوة المتسعة بين السعر الرسمي للدولار عند 8.88 جنيهات وبين السعر الذي يقارب 11 جنيها في السوق السوداء يشجع العاملين في الخارج على التحايل على البنوك ليفقد الاقتصاد مصدرا مهما آخر من مصادر العملة الصعبة.
ولم يستجب مسؤولون في البنك المركزي لطلبات للتعليق على تنفيذ تجار بالسوق السوداء لصفقات في الخارج.
وقال مصرفي طلب عدم الكشف عن اسمه نظرا لحساسية الأمر: "إنها حلقة مفرغة لأن الطريقة الوحيدة للقضاء على السوق السوداء هي أن تبدأ البنوك بتوفير الدولار، فيما لا تملك البنوك الموارد الدولارية إذ تسحبها السوق السوداء في الخارج".
كفاح لاستعادة النمو
تواجه مصر صعوبات لاستعادة النمو الاقتصادي منذ انتفاضة 2011 التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك وأدت إلى عزوف السائحين والمستثمرين الأجانب عن البلاد، وهما مصدران مهمان للعملة الصعبة.
وهبطت الاحتياطيات الأجنبية للبلاد من أكثر من 36 مليار دولار قبل الانتفاضة لتصل إلى نحو 17.5 مليار دولار في أيار/ مايو.
واضطر البنك المركزي إلى ترشيد الدولارات وإعطاء الأولوية للسلع الأساسية مثل السلع الغذائية والأدوية وفرض قيود على تحويلات وإيداعات النقد الأجنبي.
وأدى نقص الدولار إلى خلق سوق سوداء يكون فيها المستوردون والأفراد على استعداد لدفع سعر أعلى كثيرا عن السعر الرسمي للحصول على ما يحتاجونه من النقد الأجنبي.
أزمة كبيرة
يقول تيموثي قلدس من معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط: "بمجرد فرض هذه الضوابط الصارمة على رأس المال فإنك تخلق أزمة كبيرة في سوق العملة وتحفز على التهرب من النظام المصرفي كليا، وهو ما يفسر الأقاويل بأن 90 بالمئة من التحويلات لا تذهب للنظام المصرفي".
وأضاف: "هذا هو السبب وراء عدم تشجع المستوردين لجلب أموالهم للبلاد مرة أخرى، إذ تساورهم المخاوف من عدم تمكنهم من تحويل أموالهم في وقت لاحق فلماذا لا يحتفظون بها في مكان آخر؟".
وخفض المركزي قيمة العملة في آذار/مارس في محاولة لتضييق الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق من السوداء، إلا أن الجنيه أخذ في التراجع في السوق السوداء وأصبحت الفجوة الآن أكثر اتساعا مع بلوغ الفارق بين السعر الرسمي وسعر السوق الموازية 25 بالمئة.
أرباح التصدير
تجعل هوامش الربح التعاملات غير المشروعة جذابة في أعين الأفراد والشركات الذين لم ينخرطوا في هذا العمل من قبل.
ووجدت شركات كانت تعتمد من قبل على التصدير لتحقيق أرباح أنها قد تحقق مزيدا من الأرباح عبر بيع الدولارات التي تكسبها للمستوردين المتعطشين للعملة الصعبة بسعر السوق السوداء، وذلك حسبما أفاد ستة من المتعاملين في السوق السوداء.
وأكد هؤلاء أن الصفقات تتم في الخارج وأن الدولارات لا تدخل مصر مطلقا.
وقال أحد تجار العملة الذي يعمل بشكل مباشر في مثل هذه الصفقات لكنه طلب عدم ذكر اسمه: "حتى لو عمل خسارة على بيع البضاعة بيكسب في قيمة التحويل. بيسيب الفلوس برة ويبيعها لمستوردين عايزين الفلوس برة".
وأضاف: "في ناس بدأت تصدر بسبب الموضوع ده". وأعطى مثالا بأحد أقاربه الذي يقوم بتصدير الفاكهة بخسارة لدولة الإمارات لكنه يحقق أرباحا عندما يبيع العملة الصعبة للمستوردين.
ويشكو المستوردون المصريون منذ أوائل 2015 من أن نقص الدولار والقيود على تحويل وإيداع العملة الصعبة جعلت من الصعب الحصول على خطابات الائتمان الضرورية لتخليص السلع في الجمارك.
خفض الواردات
وتسعى مصر لكبح الطلب على الدولار عبر خفض واردات السلع غير الأساسية التي يعتبرها المركزي أحد أسباب الأزمة.
لكن هذه السياسة لم تؤت ثمارها بعد لأن الصادرات وهي مصدر مهم لتدفقات العملة الصعبة آخذة في التراجع أيضا في ظل الصعوبة التي يواجهها المصنعون المصريون في الحصول على الدولارات اللازمة لاستيراد المواد الخام والآلات.
وبحسب بيانات البنك المركزي تراجعت قيمة الصادرات 13.9 بالمئة إلى 6 مليارات دولار في النصف الأول من السنة المالية 2015-2016.
ولم يرد مسؤولون في البنك المركزي على مكالمات لطلب التعليق على مدى نجاح جهود البنك الرامية لدعم السيولة الدولارية.
لكن في تعليقات نشرتها وكالة الأنباء الرسمية في السابع من حزيران/يونيو، قال طارق عامر محافظ البنك المركزي إن الموارد الدولارية ارتفعت "عشرة أضعاف" لدى البنوك بعد تخفيف القيود على إيداع وتحويل النقد الأجنبي في وقت سابق من العام.
وقال عامر في وقت سابق إن الاحتياطيات ستصل إلى 25 مليار دولار بنهاية العام الحالي. وبينما أخذت الاحتياطيات في الارتفاع منذ تشرين الأول/أكتوبر يقول عدد من المصرفيين إن الحصول على الدولارات من النظام المصرفي أصبح أكثر صعوبة.
وقال عمرو عبد اللطيف رئيس جمعية المصدرين المصريين إنه ليس لديه علم بأي مصدرين يحتفظون بالعملة الصعبة في الخارج أو يبيعونها قبل دخولها البلاد.
وأضاف: "التصدير قد يكون أحد الحلول للاقتصاد المصري بأكمله إذ يوفر النقد الأجنبي ويتغلب على نقص الاستثمار الأجنبي المباشر والسياحة وتحويلات المغتربين. لكن إن لم يحدث ذلك داخل النظام المصرفي الرسمي فلا فائدة منه".