الأزمة التي تشهدها العلاقات التركية الأوروبية بدأت تأخذ منحى آخر بعد تصعيد رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان لهجته ضد أوروبا. ويرى بعض المراقبين أن هذا التصعيد مقصود ومؤقت بهدف تأجيج المشاعر القومية لدى الناخبين الأتراك قبيل الاستفتاء الشعبي المزمع إجراؤه في السادس عشر من أبريل / نيسان المقبل، إلا أن اختزال الأزمة في هذا الجانب فقط تبسيط شديد يحجب رؤية الأزمة بكل أبعادها وأسبابها ومآلاتها.
كانت الأزمة تبدو حتى الوقت القريب كخلافات تعود إلى عدم التزام الاتحاد الأوروبي باتفاقية الهجرة التي أبرمها مع تركيا ووعد فيها بإعفاء المواطنين الأتراك من تأشيرات الدخول لفضاء شنغن. ثم تطورت بسبب انحياز بعض أعضاء الاتحاد الأوروبي بشكل سافر للجبهة المعارضة للتعديلات الدستورية، لدرجة أنها أصبحت تمنع الوزراء والنواب الأتراك المؤيدين للتعديلات الدستورية من لقاء أبناء الجالية التركية، في مقابل سماحها للمنظمات الإرهابية بتنظيم فعاليات شعبية للدعوة إلى التصويت بــ"لا" في الاستفتاء الشعبي.
رئيس الجمهورية التركي في آخر تصريحاته، قال إن "اجتماع قادة دول الاتحاد الأوروبي في الفاتيكان بمناسبة الذكرى السنوية الستين لتأسيس الاتحاد أظهر تحالفهم الصليبي"، مشيرا إلى أن "الاتحاد الأوروبي يرفض عضوية تركيا لكونها دولة مسلمة". وأضاف متسائلا: "لماذا اجتمعتم في الفاتيكان؟ ومنذ متى كان البابا عضوا في الاتحاد الأوروبي؟".
هذه التصريحات، بالإضافة إلى التصريحات السابقة التي اتهم فيها أردوغان قادة الدول الأوروبية بالفاشية والنازية، أثارت ردود أفعال متباينة بين مؤيد ومعارض لهذه اللغة التصعيدية، وسط استياء المعجبين بثقافة القارة العجوز حد الحب الأعمى من تطرق أردوغان إلى الوجه الصليبي لأوروبا، بالإضافة إلى انزعاج القادة الأوروبيين أنفسهم من تذكير رئيس الجمهورية التركي ببقايا النازيين.
أردوغان، منذ فترة طويلة، يتعرض لهجمة شرسة تشنها وسائل الإعلام الأوروبية التي تصفه ليل نهار بــ"الدكتاتور". ولا يمكن أن يتم تنظيم مثل هذه الحملة الممنهجة لشيطنة رئيس الجمهورية التركي وتشويه صورته دون موافقة القادة الأوروبيين الذين يصبون الزيت على النار بين الحين والآخر للتأجيج من خلال تصريحاتهم التي تستهدف تركيا ورئيسها.
وقبل أقل من سنة، تعرض أردوغان لمحاولة انقلاب كادت تقتله. ولم تقف الدول الأوروبية إلى جانب الحكومة المنتخبة والديمقراطية التركية، باستثناء إطلاق تصريحات خجولة تستنكر محاولة الانقلاب. بل تمنت تلك الدول نجاح المحاولة، واحتضنت الانقلابيين، وما زالت تحتضنهم وتدافع عنهم، إلى جانب احتضانها لمنظمات إرهابية تستهدف أمن تركيا واستقرارها.
قادة حزب العمال الكردستاني وعناصره يسرحون ويمرحون في أنحاء أوروبا، وينظمون فعاليات في الشوارع والساحات تحت حماية قوات الأمن. وفي إحدى تلك الفعاليات التي تم تنظيمها قبل أيام من قبل أنصار حزب العمال الكردستاني أمام البرلمان السويسري، رفعت لافتة رسمت عليها صورة أردوغان ومسدسا موجَّه إلى رأسه، وكتبت تحتها عبارة "اقتلوا أردوغان". ولما قامت وزارة الخارجية التركية بالاحتجاج على رفع تلك اللافتة في عاصمة سويسرا وأمام برلمانها، اضطرت الحكومة السويسرية للتنديد برفع اللافتة المذكورة، كما فتحت النيابة السويسرية تحقيقا حوله، ولكن دون أن يعتقل أو يستدعى أحد ممن رفعوا اللافتة أو من المنظمين للمظاهرة.
وفي هذه الحالة، ألا يحق لأردوغان أن يرد بالمثل على هذه الهجمة الأوروبية التي تستهدفه والاتهامات الباطلة التي يتم توجيهها إليه؟ بلى. بل يحق له أن يرد الصاع صاعين.
الأزمة بين تركيا والدول الأوروبية ليست سحابة صيف، ولا حالة الجنون التي أصابت بعض الدول الأوروبية متعلقة فقط بالاستفتاء الشعبي على التعديلات الدستورية في تركيا. بل الأزمة بين أنقرة وعواصم أوروبية أعمق من ذلك بكثير، ويتوقع استمرارها حتى بعد منتصف الشهر المقبل. لأنها متعلقة بالدرجة الأولى بانتشار العنصرية وصعود اليمين المتطرف في أنحاء أوروبا، وتوجه القارة العجوز نحو العودة إلى جذورها الصليبية.
أردوغان لا يغامر ولا يحب المغامرة، ولكنه يحب التحدي المدروس، كما يحب الصراحة والمكاشفة، بدلا من اللجوء إلى المجاملة واللغة الدبلوماسية. ومن المتوقع أن تشكل هذه اللغة الجديدة التي يستخدمها رئيس الجمهورية التركي بداية لتقييم أنقرة لموقفها من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وتبنيها لإستراتيجية جديدة لتتوجه نحو تعزيز علاقاتها الثنائية مع بعض الدول الأوروبية، مثل بريطانيا، بدلا من أن تنتظر أمام العتبة.