بعد أن قامت
إسرائيل عام 1948؛ كان التفاعل المباشر مع هذا الحدث قد لوحظ في سوريا وفي
مصر، حيث عرفت المنطقة أولى سلاسل الاضطرابات والانقلابات العسكرية. ففي سوريا قامت ثلاثة انقلابات عسكرية متتالية، قبل أن تشهد سوريا فترة قصيرة من الحكم الليبرالي المدني الديمقراطي في الخمسينيات، حتى قيام الانقلاب على الوحدة المصرية السورية وحدث الانفصال عام 1961.
أما في مصر، فقد اعترف جمال عبد الناصر بأنه قام بحركة الجيش انعكاسا لمأساة هزيمة الجيوش العربية أمام العصابات الصهيونية عام 1948؛ وحصار الفلوجة الذي انتهى مقابل توقيع مصر على اتفاق الهدنة في أوائل 1949.
وتأثرت مصر بقيام إسرائيل والصراع معها، لدرجة أن هذا المسلسل هو الذي أثر على نظامها السياسي، عدا أن الحكم العسكري في مصر كان يتمسك بالحكم العسكري ما دام الصراع قائما مع إسرائيل، ولما أبرم السادات معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979، أكد أن حرب 1973 هي آخر الحروب، وأن السلام مع إسرائيل أنهى الصراع، وبذلك تسقط ذريعة استمرار الحكم العسكري أي ما يعرف بشرعية يوليو، فاخترع السادات لنفسه شرعية جديدة هي ثورة تصحيح مسار الثورة والتخلص من رفاق عبد الناصر، وقبل أن يرحل اخترع لمبارك شرعية أخرى هي شرعية 1973، وكأن تموز/ يوليو قد أدت إلى هزيمة 1967، وأن تصحيحها عام 1971 أدى إلى نصر 1973، وأن هذا النصر هو الذي أتى بمبارك إلى سدة الحكم.
طوال فترة عبد الناصر كان الجدل شديدا في مصر والعالم العربى حول طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي: هل هو صراع عسكري، أم صراع قومي، أم صراع سياسي، أم ديني أم أنه صراع عرقي/ أم صراع قانوني أم أنه أخيرا صراع حضاري؟
هذه النظريات السبع تم اختبارها طوال العقود الستة الماضية.
فقد ثبت أنه ليس صراعا عسكريا محضا، ولكن الذراع العسكرية المصرية هزمت لأسباب سياسية، وعندما حقق الجيش بطولات في معركة التحرير في تشرين الثاني/ أكتوبر مثلما حقق بعض عناصره بطولات فردية عام 1967؛ ضاعت كلها في استراتيجية السادات في معاهدة السلام، فكان ذلك إقرارا بأن إسرائيل حسمت الصراع عسكريا، على أساس أن الجيش أو القوة العسكرية انعكاس لقوة الدولة والمجتمع في البلدين.
أما أن الصراع ديني، ففيه جزء من الصحة في الجانب المصري، وكل الصحة في الجانب الإسرائيلي، فإسرائيل تريد أن تكون دولة دينية بالمفهوم السياسي الذي يعتبر الصراع دينيا، أما في مصر فقد تم مطاردة التيار الإسلامي الذي يعتبر الصراع استمرارا لسنة مشرفة منذ عهد الرسول، وتم استئناس المؤسسات الدينية في مصر رغم الخطاب العنصري المتطرف للزعماء الدينيين لليهود والمستعمرين.
وهكذا كسبت إسرائيل هذا الجانب التفسير الثالث أنه صراع سياسي بين كتلتين سياسيتين، الكتلة الأولى هي إسرائيل التي زرعت في المنطقة بمؤامرة، والثانية هي الجسد العربي الذي يدافع عن جزء مغتصب منه ضد السرطان الصهيوني.
التفسير الرابع، أنه صراع بين عرقين، يهودي وعربي، والصحيح أنه صراع بين كتلة ثقافية عربية على أساس أن العروبة ثقافة، وبين مجموعات مهاجرة في إطار المشروع الصهيوني الاستعماري بذرائع واهية ومؤامرة محكمة، فلا اليهود شعب ولا هم عرق، وإنما هم أتباع شريعة هي اليهودية ويعملون على استغلالها سياسيا على غير حقها، فليست هناك شريعة سماوية تبرر الإجرام والغصب ونهب الحقوق.
التفسير الخامس، أنه صراع قومي (أي بين قوميتين)، القومية العربية والقومية اليهودية، ويعبر المشروع الصهيوني عن القومية اليهودية، والذي ينطلق من أن اليهود شعب، وأن من حق هذا الشعب أن يكون له دولة، فكان تصريح بلفور يتحدث عن وطن قومي في فلسطين ثم تولت إسرائيل سد الفجوة بين هذا العطاء؛ وبين متطلبات المشروع الصهيوني الذي يريد فلسطين دولة يهودية. أما القومية العربية فتطمع إلى تجميع الدول العربية في دولة واحدة، أي وحدة عربية.
التفسير السادس، هو أن الصراع بين العرب وإسرائيل صراع قانوني، وهذا التفسير يستند إلى مرجعيتين الأولى مرجعية يهودية، وهي قرار التقسيم الذي اتفقت عليه الدول الرئيسية في النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، أما المرجعية العربية فهي أن اليهود مهاجرون وطارئون ومعتدون، وأن قرار التقسيم مخالف لمبادئ الميثاق واختصاص الجمعية العامة. فالسياسة في هذه الحالة هي التي صنعت القانون، وحتى عندما قبل الفلسطينيون والعرب قرار التقسيم عام 1988 كان المشروع الصهيوني قد تجاوز القرار بكثير منذ 1967 فحصلت إسرائيل قبيل عدوان الخامس من حزيران/ يونيو على 78 في المئة من فلسطين ثم على كل فلسطين، بالإضافة إلى سيناء والجولان.
التفسير السابع، أنه صراع حضاري، وهذا يعني أن الغالب لا بد أن يبتز الطرف الآخر في مجمل المكونات الخاصة بالدولة الحديثة، ونخص منها ثلاثة خصائص، الأولى أنها دولة قانونية أي أن القانون فيها هو السيد المطبق على الجميع ويضعه برلمان منتخب، وتطبقه سلطة تنفيذية صحيحة وتفصل في منازعاته سلطة قضائية حقيقية؛ يكون الفصل واضحا فيها بين سلطات الشرطة، والنيابة والقضاء.
الخاصية الثانية، هي أن يتم الفصل تماما بين الدولة والنظام، وعلى أساس وضوح المصالح والبنيان الدائم للدولة، بينما يتم تقييم النظام بقدر نجاحه في خدمة هذه المصالح.
الخاصية الثالثة، استقرار النظام الديمقراطي ليس فقط بمؤسسات ديمقراطية حقيقية، وإنما بثقافة وسياسات الحرية والشفافية والمحاسبة والعلنية.
فيما يتعلق بتوفر هذه الخصائص في إسرائيل وفي الدول الرئيسية في الصراع العربى الإسرائيلي، من الملاحظ أن مصر وسوريا والعراق تولت السلطة فيها نظم عسكرية مستبدة لا تقيم وزنا للشعوب، وإن كان خطابها السياسي ومصدر شرعيتها لدى شعوبها هو الخطاب المعادي لإسرائيل.
في العراق، تسبب صدام حسين، بشكل أو بآخر، بالإضافة إلى عومل أخرى، إلى التهديد الوجودى للعراق، وهو قطعا ما لم يكن يتمناه لبلده. وكذلك الحال في مصر بشكل أوضح؛ التي برر الحكم العسكري وجوده بخطر إسرائيل، وسقط مبرره منذ 1979 ولا يزال في السلطة.
فضاعت سيناء وهزمت مصر بسبب
الاستبداد، ثم رهن السادات إرادة مصر كلها مقابل استرداد سيناء منقوصة السيادة، ثم تطورت الصداقة مع إسرائيل، وكأن استسلام مصر لإسرائيل وتخليها عن قيادة
العالم العربي هو مقابل تحييد إسرائيل في إطار معاهدة السلام، فتعرضت مصر في وجودها بمرور الزمن تحت وطأة الفساد والاستبداد والتبعية للخطر والتآكل، وهو ما أدى قيام الثورة ثم انتكاسها بحدة عقب الثورة، ولا يختلف مسار سوريا كثيرا عن ذلك في أسباب تهديد وجودها.
كانت
الديمقراطية في إسرائيل من أهم أوراق التميز الإسرائيلي على العربي يقابلها غياب الديمقراطية في دول المواجهة، بل إن إسرائيل تقف بالمرصاد لأي أمل في الديمقراطية خاصة في مصر، لأن الديمقراطية فيها يعني عصرا جديدا للمنطقة كلها واستقلالها للقرار ونهوض مصر من كبوتها، وإلغاء الاستثناء الإسرائيلي الذي تدل به على العرب.
ولذلك، صار واضحا أن غياب الديمقراطية في المنطقة، هو أهم مهدد للوجود العربي وبقاء الدول، كما أن أزمة الديمقراطية في إسرائيل تؤرق كبار مفكري إسرائيل، لدرجة أن إيران عندهم ليست مهددا وجوديا، بل الأخطر هو اهتزاز ميزان الديمقراطية، ويقصد بذلك أن تصبح ديمقراطية إسرائيل لكل من يحمل الجنسية الإسرائيلية وليس لليهود دون الفلسطينيين، وينتقد وجود الديمقراطية العنصرية التي تخلق فوارق بين الجنسية والمواطنة في إسرائيل.
ومن الواضح أن عداء إسرائيل للديمقراطية للفلسطينيين مبني على أن الفلسطينيين ليسوا أهلا للحكم الديمقراطي، وأن إسرائيل قامت على أرض بلا شعب لا تهيئة ملكاته للاستفادة ببلده، وهذه رؤية استعمارية أثبتت الأحداث أن الاستبداد العربي خلق أوضاعا أسوأ من الحكم الأجنبي.
من ناحية أخرى، فإن الصراع بين العرب وإسرائيل اتضح أنه حضاري، فمن يجيد الحكم الديمقراطي ويستكمل مقومات الدولة الحديثة سوف يكسب في معركة البقاء، فقد أدت أزمة الحكم في دول المواجهة إلى تهديد وجودها وهزيمتها أمام إسرائيل التي تمسكت بديمقراطيتها حتى العنصرية فصارت الدولة الفائزة المتماسكة التي يتجاوز نفوذها عشرات المرات لحجمها الإقليمي، كما ساعد المشروع الصهيوني على التقدم في الفراغ السياسي الذي خلقه الاستبداد والفساد في هذه الدول.
الخلاصة هي أن تهديد الوجود العربي علاجه استكمال مقومات الديمقراطية، وإصلاح العلاقة بين الحاكم والمحكوم وبين أفراد المجتمع، كما أن نجاح المشروع الصهيوني في التهام فلسطين يتزامن مع تآكل الوجود العربي بسبب غياب الديمقراطية. فوظيفة الديمقراطية للدول العربية مزدوجة: الوظيفة الأولى تماسك الدولة وقوتها الذاتية ضد عوامل الفناء خاصة الإرهاب لأسباب داخلية، والوظيفة الثانية هي نجاح العرب في هزيمة أهداف المشروع الاستعماري الصهيوني في صراع الهوية الحضارية، على أساس أن الصراع معه صراع حضاري، بعد أن ناقشنا واختبرنا ست فرضيات لطبيعة الصراع.