هذا ما قلته عندما طلت علينا الفنانة الراحلة، لتفتي في السياسة، فبدا إفتاؤها – لافتقادها لشروط الفتوى ومواصفات الفقيه – كأنها تصنع "عجين الفلاحة"، وكنت قبل هذا الظهور المفاجئ، أحسبها من عداد الموتى، وأنها في مرحلة عذاب القبر، فقد اعتزلت التمثيل، في السنوات الأولى لعملي بالصحافة، وها أنا أوشكت على الإحالة للتقاعد، بينما هي "حية تسعى"!
وقبل أن أستوعب حالة الفقيدة العظيمة "سهير البابلي"، طل علينا الشيخ "مبروك عطية"، ليستكمل المهمة في صنع "عجين الفلاحة"، فقد ودع "هجر" الرجل مالا يريبه إلى ما يريبه، وتحدث في غير تخصصه، فجاء بالعجائب، وكان عليه أن ينشغل باختصاصه الدقيق كواعظ، وكرجل دين، لكن لأن كله عند العرب صابون، فقد أفتى فيما لا يعنيه، فكان من الطبيعي أن يواجه بما لا يرضيه، وهو إنسان ليست له سوابق في العمل السياسي، لكنها "الفهلوة المصرية"، التي تجعل المرء يتكلم في أي شيء ما دام ليس كيماء، والعبارة الدراجة هنا "هي كيميا؟!.
ولأن الحديث في السياسة ليس مطروحا على جدول اهتمام المذكورين أعلاه، فكان الأمر بمثابة تمثيل بـ "الجثث"، وفي اعتقادي أن عملية التمثيل تمت بمجرد الطلب منهما الحديث في السياسة، فكانا بإجابتهما في وضع يستحق الرثاء، واللافت، أن هذا تم في مقابلتين صحفيتين، ولجريدة واحدة، وفي ظرف أسبوع واحد!
فجريدة "اليوم السابع" وهي تسعى لجذب الزبائن لمرشحها المختار في الانتخابات الرئاسية، التي ستشهدها مصر في العام المقبل، قامت باستغلال نجومية "مبروك عطية"، و"سهير البابلي"، فلم يكذبا خبرا وقاما بتأييد السيسي، فكان لسذاجة الطرح كالدبة التي قتلت صاحبها، وأصبح كلامهما فضيحة تتغنى بها الركبان!
ليس لي سابق معرفة بالشيخ "مبروك عطية"، فلم أسمع باسمه إلا مؤخراً، من خلال بعض الفيديوهات، التي تحتوي على مقاطع مثيرة له، تم التقاطها من برنامجه بإحدى القنوات التلفزيونية، وهو له طريقة خاصة، يمكن وصفها بـ "السوقية"، وإذا كانت منفرة لبعض الناس، فإنها محببة لبعضهم الآخر، وقد صار نجماً في مرحلة الفراغ الديني التي تحياها مصر، بعد الثورة، وانصراف رجال الدين إلى السياسة، بحثاً عن نجومية سريعة، ونأى الشيخ بنفسه عن ذلك، وهناك محاولة سابقة لتوظيف نجوميته لخدمة النظام الانقلابي القائم، فكانت آراؤه صادمة، فقد نقل لي أحد الأصدقاء، أن "أحمد موسى" سأله عن رأيه في الإخوان؟.. وكان واضحاً أن من طرح السؤال بهذه الثقة، كان يمني نفسه بوصلة هجوم، وإذا كان الشيخ يجيد الرد و"فرش الملاية"، فإن هذا يعني أن إجابته، ستجعلها "ليلة ليلاء"، لكنه خيب آمال السائل، عندما قال على الهواء مباشرة وصفاً للإخوان: "ناس زي الفل"، وهو أمر يعد مغامرة، وشجاعة لم تكن منتظرة، فجمهور الشيخ "مبروك عطية"، لا ينتظر موقفه السياسي، فقد ارتضى منه، بكلامه في الدين بطريقته الخاصة!
والموقف السياسي الآخر، كان في موقعة "الطلاق الشفهي"، عندما أفتى عبد الفتاح السيسي، بعدم وقوع الطلاق إلا أمام "المأذون"، لكن ما يبرر خوض الشيخ في السياسة أنه أمام حالة تجرؤ على شرع الله، دفعت لخطورتها شيخ الأزهر، وهيئة كبار العلماء بالإجماع، لرفض الفتوى، بمن فيهم مفتي العسكر، الشيخ "علي جمعة"، صاحب توجيه: "اضرب في المليان"!
ومن الواضح أن "مبروك عطية" تعرض لمؤاخذة أمنية بعد الموقفين، جعلت جريدة "اليوم السابع" تستعين به في مهمة ترويج بضاعة بائرة، وليسأله محررها عن رأيه في دعوة بعض أعضاء البرلمان في تعديل الدستور، لتمديد مدة الرئاسة؟ وهو مطلب صار من الماضي، بعد أمر ترمب للسيسي بالتوقف عن هذا الهذيان الذي وصفه المرشح الرئاسي السابق الفريق أحمد شفيق بـ "الأعمال الصبيانية"!
فكان من الواضح أن السؤال ليس مطروحاً لذاته، ولكن ليدلي "عطية" بدلوه مؤيداً عبد الفتاح السيسي، ومنادياً على "جمهوره" لتأييده، والإجماع منعقد في دوائر الانقلاب على انخفاض شعبيته، لدرجة أنهم يخافون عليه من خوض الانتخابات، فكان استغلال نجومية "مبروك عطية" لهذه المهمة شبيهاً بالاستعانة بالفنانين ونجوم السينما في الإعلان عن المنتجات الغذائية، عندما تظهر الفنانة "هالة فاخر" لتعلن عن الزبدة "روابي"، فـ "الاسم روابي والطعم بلدي"، و"روابي بطعم الزبدة الفلاحي"!
سؤال سياسي، كان ينبغي أن يرفض الشيخ الإجابة عليه، فماله هو والدستور وتعديله، والرئاسة ومددها؟ لكن إذا كان السؤال مثل تمثيلاً بجثمانه، فقد أكمل التمثيل بذات الجثمان بإجاباته الخزعبلية في أمر من أمور أهل السياسة، عندما أعلن أنه مع بقاء السيسي رئيساً مدى الحياة. ولعله بذلك ظن أنه لم يرتكب حراما، وهذا ما شغله وهو "يجامل بالإفتاء" بعيداً عن تخصصه، ففي دولة الخلافة، كان الخليفة يظل في موقعه مدى الحياة، "لا أخلع قميصا ألبسنيه الله".
وبعض الشيوخ البسطاء سياسيا، ربما يرون التاريخ الإسلامي، دين وشريعة، وربما لهذا اعتبر الشيخ في المجاملة بالرئاسة مدى الحياة، أنه جامل في أمر لم يرد فيه نص، ولا يعلم أنه استخدم في التمثيل بجثمانه بحديثه فيما لا يفهم، استغلالاً لجهله السياسي الفاضح!
فإذا انتقلنا إلى حالة "سهير البابلي"، وقفنا على أن أزمتها تكمن في أنها قد طال عليها الأمد، وبعد أن اكتشفت أن النجومية قد غربت عنها، ولما وجدت بالتجربة أنها انتهت فنياً، فقد ذهبت لتجرب حظها في مجال مفتوح على البحري، وهو الساحة السياسية، فجاءت إليها، بمنطق "فرقة حسب الله"، و"زفة العوالم"، وهي أزمة من عاش في الأضواء ووجدها تنحسر عنه، وعلم العسكر بأزمة سن اليأس، فجرى استدعاء أهل الفن للأضواء السياسية، فشاهدنا عملية إفتاء في السياسية منذ الثورة، من قبل فنانين لم يعرف عنهم أبداً اهتماماً بالسياسة، ومنهم من جاء ليشغل وقت فراغه بعد أن وجد نفسه خارج الساحة الفنية، ومنهم من جاء ليحقق ذاته، لافتقاده للمهارات اللازمة للتفوق في التمثيل لمنافسة الأجيال الجديدة، التي تجمع بين العلم والموهبة!
فمال المتقاعدة "إلهام شاهين" والسياسة، حتى تتحدث فيها، ويتم النظر إليها على أنها المناضلة "إلهام"؟.. وقد مكنها للاستمرار في الدور، بعض "شيوخ الزفة"، وأحدهم قام بعملية "جر شكلها"، فتم الحكم بسجنه، وقد أساء لحكم الرئيس محمد مرسي، والتيار الإسلامي بما فعل، لكنه عندما وجد أن الأمر جد وليس بالهزل، ذهب يعتذر إليها ويطلب منها العفو والمغفرة، وها هو يخرج من سجنه فلا ينطق ببنت شفة بعد الانقلاب، ولم يكن أحد بقادر على اسكاته من قبل عن لغو القول وبهتان الحديث، الذي مكن "إلهام شاهين" من أن تقوم بدور الزعيمة "صفية هانم زغلول"، ولتجد نفسها نجمة، بشكل لم تحققه بعد أكثر من ثلاثين سنة من العمل الفني، لافتقادها لأي موهبة تمكنها من النجاح، فلم يجد فيها "وحيد حامد"، إلا سيقان، قبل سبعة عشر سنة، لتشارك بهما في فيلم "سوق المتعة"!
لكن للزمن بصماته على الجسد الإنساني، ولهذا كان الحكم القرآني للائي يئسن من المحيض، مختلفاً عن غيرهن! ولهذا وجدت المذكورة في الساحة السياسية مجالاً مفتوحاً لكل من هب ودب، فتفتي، وتقرر، وتتزعم، وتهدد!
"سهير البابلي"، من طائفة الفنانات المعتزلات، وقد اختلفت مع الناقد الراحل "فاروق عبد القادر"، عندما كتب عنها مقالاً عنيفاً بعد اعتزالها، أعاد نشره في كتابه "نفق معتم ومصابيح قليلة"، قال فيه أنها "انتهت"، وأن اعتزالها طبيعي فلم يعد لديها ما تقدمه، وكان رأيي أنها اعتزلت في قمة نجاحها كمسرحية مهمة، هي عند الإنصاف جزء من تاريخ ومسيرة المسرح المصري، لكن تكمن مشكلة بعض الفنانات المعتزلات، إذا استبعدنا الفنانة شادية، أنهن لم يستطعن العيش طويلاً بعيداً عن الأضواء، ومنهن من عدن للفن، لكن لأن كل وقت وله آذان، فقد وقفنا على أنهن انتهين، فعدنا للأضواء من باب "اللت والفت" في السياسة، فعادت "شمس البارودي" وبعلها إلى جوار السيسي، وعادت "عفاف شعيب" مساندة لمبارك في أيام الثورة، وعادت "شهيرة" لكي تتحدث عن أمجادها الفنية، التي لا تُرى بالعين المجردة، وكيف أنها ضحت بكل تاريخها الفني "غير المرئي"، وكل انتصاراتها الفتاكة، بعد أن تزوجت محمود ياسين، وكانت أشهر منه. تقول هذا وهى ممتلئة بالغيرة، وكأن الساحة الفنية ليس فيها إلا هي وزوجها. ولا بأس فمن أنجب لم يمت؛ وقد أنجبت فلتة زمانها، "رانيا" التي فشلت في الفن، فهرعت إلى التقديم التلفزيوني، باعتباره مهنة من لا مهنة له، وهى لها تجليات، تسبق اكتشاف علاج الإيدز بالكُفتة، بمئة سنة ضوئية، فقد قالت – والحق ما قالت – أن شقيق أوباما – الإخواني – وراء قطع المعونات الأمريكية وتجميدها في عهد ترمب!
عندما كانت "سهير البابلي" فنانة لا يشق لها غبار، لم يقل أحد إن لها آراء في السياسة، وما قالته على المسرح، وصفق له الجمهور، من آراء هي خاصة بصاحب النص، ولم يجر معها أحد حوارات سياسية أيام مجدها الفني، لكنها الآن تريد أن تعود للنجومية ولم تعد تمتلك الأدوات الفنية اللازمة ومن بينها القدرة، فللزمن أحكامه، فدخلت من باب السياسة مؤيدة للسيسي، ولتقل آراء كاشفة عن جهل يغني عن أي علم، ودفع الكاتبة الكبيرة "صافيناز كاظم" لوصفها بأنها "طول عمرها فنانة عظيمة وإنسانة حمارة"! وليس في الأمر مذمة، ما دامت لم تصفها بـ "الحمارة الوحشية"!
لقد قالت لافض فوها: إن مرسي كان يريد أن يبيع مصر لفلسطين وأمريكا، وأنه كان "هيبيع البلد مش هيخربها.. بتحالفه مع أمريكا وفلسطين"، وبعد ما رأته من مرسي، ولم توضحه، فإنها "ستقبل رجلين مبارك حتى لو كان شرابه منتن"، كما أعلنت أنها ستنتخب عبد الفتاح السيسي إذا ترشح!
وعندما يسمع المرء لها وهي تقول هذا العبث، فإنه سيتعاطف معها كإنسانة يجري التمثيل بجثمانها على هذا النحو، تماماً كما جرى التمثيل بجثمان الشيخ مبروك عطية، فحالهما يبعث على الرثاء لا الغضب، ولهذا قال المتصوفة: إن من البلاء أن يتحدث المرء فيما لا يفهم!