الديناميات والتطورات الأخيرة التي تجري على مسرح الحدث في العالم العربي تنبئ بوجود محاولات مطردة لاستعادة الهدوء في العديد من مناطق التوتر، وبداية التفكير في تأمين وضع يتمتع بقدر من الاستقرار ولو كان مشوبا بالحذر.
ففي العراق، حصل قدر واسع من اتفاق وجهة النظر الاستراتيجية على إنهاء تنظيم الدولة، سواء على مستوى السياسات الدولية، أو الإرادات الإقليمية، وفي اللحظة التي اتجهت فيها كردستان العراق لطرح قضية الاستفتاء، تحركت العراق وإيران وتركيا لتعطيل هذه الدينامية، واضطرت الولايات المتحدة الأمريكية إلى الاقتناع بأن هذه الخطوة سابقة لأوانها، وأنها تحتاج للتأجيل بعد أن يأخذ الحوار مداه بين بغداد وأربيل، وجاء تعليل هذا الموقف على لسان المبعوث الأمريكي لدى التحالف الدولي ضد "داعش" بريت مكجيرك بأن: "الاستفتاء لا يحظى بدعم المجتمع الدولي ويفتقر لعدد من المعطيات ليحظى بالشرعية".
وفي سوريا، يبدو أن الاتفاق الأمريكي الروسي لوقف الحرب في جنوب غرب سوريا يؤشر على بداية النزوع للطرح البراغماتي عند مختلف الأطراف، إذ اقتنع الجميع أنه لا النظام ولا المعارضة قادران على حسم المعركة، وأن القوى الدولية والإقليمية المتصارعة قد بدأت تشعر بكلفة استمرار الاستنزاف بسبب طول عمر هذه الأزمة المستعصية.
وفي الجبهة الفلسطينية، أعلنت حركة المقاومة الإسلامية عن حل اللجنة الإدارية التي شكلتها لإدارة القطاع، وأبدت رغبتها في التفاوض لتشكيل حكومة وحدة وطنية إلى جانب حركة فتح، وبدا واضحا من خلال ديناميتها في اتجاه مصر، أنها تسعى لطي صفحة الخلاف كليا مع القاهرة، وتقدم تنازلات عملية مهمة في هذا الإطار، بدأت بإصدارها وثيقة المبادئ والسياسات العامة التي قبلت فيها مبدأ إقامة دولة فلسطينية على خطوط الرابع من يونيو 1967،معتبرة إياه "صيغة توافقية وطنية مشتركة"، وانتهت بهذه الخطوة المهمة المعلنة.
وفي اليمن، تبدو الانعطافة الأخيرة للسعودية والإمارات في اتجاه دعم نجل علي عبد الله صالح، خلافا لكل المنجز المستثمر سعوديا من أجل تثبيت شرعية هادي، كجزء من خيار استراتيجي مبني على قراءة لتعقيدات قبلية واستراتيجية لاستعادة جزء مهم من الأمن القومي السعودي من خلال محاصرة المد الحوثي وخلفه النفوذ الإيراني، إذ كان لهذه الخطوة تأثير في تفكيك التحالف بين علي صالح والحوثيين، وإضعاف شرعية الحوثيين في الشمال، وبسط الهيمنة الاستراتيجية على الجنوب.
وعلى مستوى الأزمة الخليجية، ظهرت بوادر لإذابة الجليد بين
السعودية وقطر، ونشرت وكالة الأنباء القطرية خبرا لاتصال الهاتفي بين أمير قطر وولي العهد السعودي بتنسيق مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وطلب ولي العهد السعودي بتكليف مبعوثين لبحث الخلافات بين البلدين، وهو الاتصال الذي أكدته وكالة الأنباء السعودية عن مصدر سعودي مسؤول في وزارة الخارجية السعودية، سوى أنها تحدثت عن مضمون مخالف لما نشرته الوكالة القطرية، وهو ما يكشف جدية هذا الاتصال، وفي الوقت ذاته انزعاج السعودية من نشر الخبر بسبب تداعياته المحتملة على حساسية ترتيب وضع الحكم في المملكة.
هذه بعض المؤشرات التي يمكن قراءة مجموعها على أساس وصول تناقض الإرادات الدولية والإقليمية في المنطقة إلى منطقة اللاعودة، وأن العالم صار يفتقد قواعد النظام التي يمكن أن يعول عليها لتسوية النزاعات، وأن العالم فقد بشكل حاسم دورا قياديا يستطيع أن يضغط في اتجاه تحكيم بعض القواعد الزاجرة لاستباب الأمن وتثبيت الاستقرار. والأهم من ذلك، أن هذه المؤشرات تكشف أن استراتيجية تمزيق العالم العربي ونشر الفوضى فيه في ظل صراع دولي على مصادر الطاقة، ووجود قوى إقليمية شديدة التباين في مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، سيكون مآله تهديد هذه المصالح برمتها، وعدم التحكم في الأدوات والواجهات التي تستعمل في حروب الوكالة، وتهديد التوازنات الكبرى في المنطقة.
بدون شك، خلف البحث الاستراتيجي عن الهدوء، ثمة رهانات أمريكية على تغيير أدوار في المنطقة، عبر تجريب تكتيكات أخرى يمكن أن تكون مؤثرة، وذلك بإنهاء لعبة تنظيم الدولة في كل من سوريا والعراق، ولا بأس من المناورة مع روسيا حول على ترتيب الحكم في سوريا لربح مزيد من الوقت، وأيضا عبر إعادة تحريك الورقة الكردية، وترتيب موازين القوى في دول الخليج، وخلط الأوراق في اليمن للالتفاف على النفوذ الإيراني في المنطقة وإعادة الحيوية للأمن القومي السعودي، وتحريك المياه الراكدة بخصوص قضية الصراع العربي الإسرائيلي، من خلال تقوية السلطة الفلسطينية والتمهيد لإحياء مسلسل السلام مرة أخرى.
لكن مفعول هذه المحاولات ليس أكيدا، فالاتفاق على إنهاء دور تنظيم الدولة في العراق، وتهدئة مسرح السياسة بتأجيل استفتاء كردستان، لا يعني أكثر من الاتفاق على عدم استعمال بعض الأسلحة أو تأجيلها، والاتفاق على التهدئة في جنوب غرب سوريا، كما الاتفاق على إنهاء تنظيم الدولة فيها، لا يعني الاتفاق على القضايا الخلافية دوليا وإقليميا في سوريا، وتغيير التكتيكات في اليمن، لا يعني أن نجل علي عبد الله صالح قد صار في جيب السعودية والإمارات، فالتجارب تكشف تغير الولاءات في اليمن بشكل سريع، كما أنه من الصعب التسليم بسهولة ترتيب توازن القوى في الخليج، وذلك لارتباط الموقف البحريني بتقدير استراتيجي يراعي النفوذ الإيراني، واستعصاء تطويع قطر، واحتفاظ الكويت بهامش كبير من المناورة، وحياد عمان. أما فيما يخص جبهة الصراع العربي الإسرائيلي، فالرهان على تكتيكات حماس التي تنتهجها اعتبارا للمصلحة الوطنية أو تفويتا لأخطار، أو تخفيفا من حالة حصار، لا يمكن الارتياح له كمؤشر تهدئة مستمرة، إذ سرعان ما تنقلب مواقف الأطراف كلها بحسب سياسة الكيان الصهيوني التي لا تراعي ترتيبات وضع مسلسل السلام على السكة.
والخلاصة، أن هذه المحاولات رغم بعدها التكتيكي، تبقى مجرد التفاف على حيثيات وضعية هشة، وأنه دون مصالحة حقيقية في العالم العربي، تنطلق من تقدير مصلحة قومية، فإن المحاولات الأمريكية لاستعادة الهدوء سترى في المدى القريب والمتوسط صعوبات وإكراهات حقيقية تمنع فعاليتها وتنزيلها على واقع الأرض.