لا تُذهلك فقط الساعات السويسرية بسبب دقتها، ولا نمط العيش والحياة المرفهة في هذه الدولة الأوروبية، إنما تُذهلك أيضا عندما تقرأ عن تنوع تركيبتها السكانية، وتعدد هوياتها القومية والعرقية واللغوية والثقافية، وفرادة نظامها السياسي الفيدرالي، وشعبها الذي من حقه مباشرةً إسقاط قانون أقره البرلمان، أو تشريع قانون جديد، أو إدخال تعديل على الدستور، فيما يسمى الديمقراطية المباشرة، كذلك الأمر مع حكومتها التي تضم سبعة أعضاء يمثلون الأحزاب الأربعة الكبرى فيما يسمى "مجلس الحكم الفيدرالي".
ومن اسمها "الاتحاد السويسري" يتضح أنها مشكلة من أقاليم، وتسمى كانتونات، وتبلغ 26 كانتونا، مثل الولايات المتحدة الأمريكية التي هي حاصل اتحاد 50 ولاية، ولو تفككت فإنها ستصير 50 دولة، والمملكة المتحدة المؤلفة من إنجلترا وإسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية، فضلا عن عشرات الدول الأخرى الاتحادية، هذه البلدان بتنوعها تتعايش في ظل دساتير ضامنة تمنح مختلف المكونات حقوقها الوطنية، وتحافظ على هوياتها وثقافاتها الخاصة، وهذه الوثيقة تحظى بالاحترام والتنفيذ الأمين، والنظام الديمقراطي فعال، ويصعب تعطيله أو الانقلاب عليه، والفضل في ائتلاف هذا الخليط غير المتجانس في الدول الاتحادية أو الفيدرالية هو دولة القانون والدستور، والديمقراطية، واحترام المؤسسات، وهذا يحفظ كيان الدولة متماسكا، الهند من العالم النامي الذي ننتمي إليه، وهي نموذج آخر للفيدرالية الناجحة التي تضم مئات القوميات والأعراق واللغات والأديان والمعتقدات والطوائف، والضامن الأساسي لهذا العقد المنوع الفريد هو الديمقراطية، وحرية الخصوصية، فهي أكبر ديمقراطية في العالم بأكثر من 800 مليون ناخب.
المنطقة العربية هي منبع للاستبداد، ورقعة الأزمات، والصراعات، والحروب، على خريطة العالم اليوم، لا تبرد أزمة حتى تشتعل أخرى، ولا تهدأ حربا حتى تنشب حربا أكثر شراسة، ولا تنشأ ديمقراطية حتى تنتكس.
المنطقة العصية على التغيير والإصلاح تُضاف إليها حاليا أزمة جديدة باستفتاء إقليم كردستان لإقامة دولة مستقلة، وهي خطوة أحادية الجانب رفضتها الحكومة المركزية في بغداد، كما يرفضها الجيران المهددون في وحدة ترابهم الوطني، كان هناك أمل في أن يسفر تحرك اللحظة الأخيرة عن إيقاف الاستفتاء مقابل حلول للمشاكل بين الإقليم وبغداد، لكن هذا لم يتم، ووضح أن الإدارة السياسية لم تشأ أن تؤخر الاستقلال القائم بحكم الأمر الواقع، وحكومة كردستان ومهما كانت حصلت عليه من مطالب ومزايا من حكومة المركز لم تكن تتخلى عن الاستفتاء، أقصى ما كانت ستقدمه هو التأجيل لوقت قصير، الانسلاخ بات محسوما عند الأكراد، وهم لم يكونوا يقبلون التفاوض عليه للبقاء ضمن العراق الموحد.
لا أريد أن أحمل بغداد المسؤولية كاملة، هي تتحمل جانبا مهما منها لأنه بعد الاحتلال لم تُبنى الديمقراطية التي بشر الأمريكيون العراق والعرب بها، صار العراق مقسما سياسيا عبر نظام حكم المحاصصات الطائفية والسياسية، وانتقل الناس من بؤس واستبداد إلى وضع أشد، أما المظالم والقتل والعنف والإرهاب فحدث عنه ولا حرج، لذلك لا غرابة أن يتسرب لدى العراقيين حنين إلى عهد صدام، من هنا ارتأى الأكراد الانعزال وقطع الصلات القليلة المتبقية لهم مع المركز، والانكفاء على النفس في كيان مستقل، وهم كانوا يخططون حثيثا لذلك.
مشكلة الأكراد ودولتهم الجديدة المتخيلة ستكون عويصة، فالانسلاخ يتم دون رضا بغداد، وكذلك أكبر مكونين وطنيين وهما الشيعة والسنة، وبقية المكونات العراقية من تركمان وآشوريين وإيزيديين وشبك وغيرهم لم يرحبوا بل يعتريهم القلق.
والجوار يرفض بالمطلق الدولة الجديدة لأنها مهدد خطير لوحدة بلدانهم لوجود مكونات كردية كبيرة فيها سيأخذهم حتما الشوق للانفصال أيضا، ولا منفذ للدولة الجديدة إلا عبر هذا الجوار الذي لو أغلق كل الأبواب في وجهها فلا حياة لها، والعواصم العربية ليست متحمسة للانفصال لأن كل بلد مهدد أيضا، أقربها سوريا بسبب الحرب الأهلية، والتقسيم يهددها ويرسم خرائطه عبر ساحات المعارك والمناطق التي يسيطر عليها المتحاربون، واليمن حالة جاهزة، ليس للتقسيم القديم بين يمن شمالي وآخر جنوبي، إنما تقسيم الشمال، والجنوب، وكذلك ليبيا، وآفة التقسيم الطائفي الديني والعرقي والقومي يمكن أن تتغلغل في الخريطة العربية، وتستهدف دولا قد نظن أنها محصنة.
هنا خطورة كردستان، وخطورة القادم، والفشل قد يكون مصير الكيان الجديد مثل دولة جنوب السودان الغارقة في اقتتال أهلي وانهيار اقتصادي، والصومال التي تفتت، وتعيش في دوامة الفقر والإرهاب.
حتى لو توفرت مبررات لنوازع الاستقلال، فإن فرص نجاح الدول الجديدة في الشرق الأوسط مهددة، لأنها تُولد من رحم مريض بكل سوءات وكوارث التخلف والانغلاق والبؤس والطغيان، وبالتبعية فإن دماء المواليد الجدد تحمل جينات هذه الأمراض العضال.
المصريون المصرية