فارق كبير بين نظام كان يعيش الآن حالة احتفال بتحقيق إنجاز سياسي وقانوني دولي عبر إقرار مجلس الأمن لمشروع قرار تقدم به لإدانة الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكان سيحتفل معه الفلسطينيون والعرب والمسلمون والأحرار في العالم المؤيدون للحق الفلسطيني، وهم الأغلبية الكاسحة، وبين نظام تجتهد دبلوماسيته منذ مساء الخميس الماضي في التبرير لقراره المفاجئ بسحب مشروع القانون تحت عنوان تأجيل التصويت عليه.
وهذا النوع من السلوك السياسي والدبلوماسي يكون مستهجنا عندما نعلم أن المشروع الذي تحمست له مصر بمشاركة فلسطينية ودعم عربي، كان سيتم إقراره في مجلس الأمن، وأن إدارة أوباما منحت ضوءا أخضر لذلك، وتلك فرصة مهمة لم يكن يجب التفريط فيها لاستثمار موقف واشنطن والتمسك بالمشروع، والدفع به للتصويت لتنال القضية الفلسطينية نصرا مهما، ويحرز النظام نقطة ثمينة لصالحه تخفف من زخم الدعاية المضادة له عن العلاقات الخاصة والحميمة التي تربطه مع إسرائيل، وتفوق ما كانت عليه في عهد مبارك.
أظن أن وصف أحد وزراء إسرائيل الراحلين - بنيامين بن أليعازر- لمبارك بأنه كان كنزا استراتيجيا لإسرائيل سيتضاءل مقارنة بالحاصل اليوم في العلاقة مع ذلك الكيان، وخصوصا بعد سحب المشروع استجابة لضغوط نتنياهو رئيس حكومة إسرائيل، واتصال ترامب بالسيسي بناء على إلحاح نتنياهو عليه، وقد كنت أضع ما يُقال عن التقارب المتزايد مع إسرائيل تحت مجهر التشكيك، باعتبار أن ذلك قد يكون نوعا من المكايدات السياسية من الخصوم تجاه النظام، وأنه تضخيم ومبالغات في بعض المواقف العادية، لكن عندما يصل الأمر لما وصل إليه في مجلس الأمن، فإن النظام هو الذي يؤكد بنفسه أن مساحة التماهي مع الدولة العبرية لا تندرج في إطار التضخيم والمبالغات والمكايدات، بل هي تتحدث جهارا نهارا عن نفسها. لست مع العداء لإسرائيل من أجل العداء، فهى تعيش حاليا مرحلة من الهدوء والاستقرار بلا مهددات خارجية، وهي بعيدة عما يموج به الإقليم من أزمات وصراعات وحروب في العديد من بلدانه المواجهة له والبعيدة عنها، وبالتالي لا توجد دولة عربية واحدة في وضع يمكنها من معاداتها أو الدخول معها في مغامرة غير مأمونة العواقب بما فيها مصر، لكن ذلك لا يعني أن نسقط من حسابات السياسة والتاريخ والجغرافيا والواقع أن إسرائيل دولة احتلال، وأنها لا تضمر خيرا لكل العرب، بما فيهم مصر، حتى لو تظاهرت بالمودة معها، فهى مودة تسعى لتحقيق مكاسب من ورائها تقول من خلالها إن أكبر دولة عربية، التي خاضت معها أربع حروب أو خمسا بما فيها حرب الاستنزاف أقامت معنا علاقات سلام، وتمارس التطبيع الذي ينتقل من حالة الجمود إلى حالة الحركة والنشاط، وأنها قريبة منا وهناك تنسيق وتفاهم حول قضايا عديدة، وأننا لسنا معزولين عربيا وإسلاميا، ويكون المكسب مضاعفا عندما تكون هناك علاقات مصرية يشوبها التوتر والأزمات مع بلدان عربية وإسلامية شقيقة، ولا نناقش هنا من تسبب في ذلك، ومن وراء التوتر والخلاف، فلذلك حديث آخر.
كل تبريرات الدبلوماسية المصرية سواء المكتوبة في بيانات رسمية أو الشفهية في مداخلات خلال برامج تلفزيونية بشأن سحب مشروع القرار، لا تقنع ولا تتضمن ما يستند على منطق معقول ومقبول.بل لا أبالغ إذا قلت إنها تزيد المأزق الذي وضع النظام نفسه فيه أمام الرأي العام في الداخل والخارج عربيا وإسلاميا ودوليا، وهذا يسحب مما تبقى له من رصيد، ولا يجب التهوين من قيمة وتأثير الجمهور العربي والإسلامي المتعاطف والداعم بشكل مطلق للقضية الفلسطينية وبكل ما يتعلق بفلسطين.
تلك التبريرات كانت في المجمل بلا معنى، لأن المشروع نفسه الذي سحبته مصر، تقدمت به أربع دول أخرى: ماليزيا والسنغال وفنزويلا ونيوزيلاندا، ولم يكن بين المشروعين تباين كبير، وقد حاز موافقة كاسحة في المجلس وتصفيقا مطولا له دلالاته، تأييد 14 صوتا، ضمنها 4 أصوات لدول دائمة العضوية وتمتلك الفيتو: روسيا وبريطانيا وفرنسا والصين، والصوت الوحيد المتبقي كان لأمريكا وقد امتنعت عن التصويت، وهذا كان سلوكا أمريكيا نادرا لأن واشنطن دائمة الاستخدام للفيتو ضد مشروعات القوانين التي تتعلق بإسرائيل، وتبرر ذلك خداعا بأن صدور أي قرار يعرقل عملية السلام ويؤثر على المفاوضات المباشرة، ومن المفارقات أن يكون ضمن جوهر تبريرات النظام، ما كانت تقوله واشنطن نفسه من قبل.
النظام يبدو كمن يشعل النار في أصابعه بنفسه، وكمن يتطوع بتقديم الهدايا لمن يترصدونه ويتربصون به، وكمن يريد تجفيف مزيد من منابع التعاطف معه بمثل هذه التصرفات والقرارات التي لا ندري كيف تُتخذ، ولا من يُستشار بشأنها، ويكون الأمر مجهدا في محاولة فهم مسوغات سلوكياته السياسية في ملفات وقضايا وعلاقات دولية، ومنها طبيعة التعامل مع إسرائيل. لماذا يستجيب النظام لضغوط بيبي وترامب رغم أنه يتبنى قضية عادلة لأن الاستيطان غير شرعي بالمطلق، حيث يُقام على أراض فلسطينية محتلة، والعالم كله يرفض الاستيطان؟ فلا دولة واحدة تؤيده حتى أمريكا نفسها راعية إسرائيل، ولماذا لم يضغط نتنياهو على الدول الأربع صاحبة المشروع البديل؟ ولماذا لم يقيم قادتها اعتبارا لغضب إسرائيل وترامب واستمروا في قرارهم ؟
أليس ما حدث من النظام هو عجب العجاب، رغم أنه كان الأجدر والأولى بالمشروع، والدول الأربع ليست في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، ولا هي تتحمل مسؤوليات تاريخية تجاه الشقيق الفلسطيني، ولم يسقط لها شهداء، ولم تُحتل أراضيها يوما، بعكس مصر، ومع ذلك اتخذت موقفا رائعا سجله لها التاريخ.
المصريون المصرية