"مشدود في كَحَّة".. عبارة تونسية تطلق على إنسان في حالة صحية حرجة، ويكفي أن يسعل (يكح) مرة واحدة ليموت. توسّع استعمال العبارة ليدلل على ضعف الإرادة، ففلان يمكن أن يغير موقفه من شيء بإغراء بسيط جدا، أو بتخويف غير جدي. فموقفه مشدود في كحة، بل تطلق على الأشياء الموضوعة في موقع غير محكم، فتسقط بمجرد ملامستها. فهي مشدودة في كحة. تونس هذه الأيام.. مشدودة فعلا لا مجازا؛ في كحة يكحها الرئيس نتيجة زكام قوي أو التهاب قصبات وحنجرة.
ليس هذا تمنيا لموته فموته بيد القدر، وليس برغبتي لكنني أحاول قراءة المشهد السياسي التونسي على ضوء الرعب الذي أصاب الطبقة السياسية التونسية، بعد أن روّج أحد العابثين خبر موت الرئيس على شبكات التواصل الاجتماعي. لقد تبين، رغم كثرة الطامعين، أن الفراغ مخيف، وأن لا أحد مستعد لملء الفراغ في هذا الوقت بالذات. فالجميع يستبقي الرئيس ويدعو له بدوام الصحة؛ معتبرا إياه السّد الأخير ضد الفوضى القادمة. طبعا لا أحد يسأل عن مصدر الفوضى القادمة، لكن اللهم احفظ الرئيس حتى لا نتورط في انتخابات سابقة لأوانها؛ قبل أن يجهز أحد للفوضى القادمة!
لصحة الرئيس تاريخ طويل في تونس
ليست المرة الأولى التي يتحدث فيها التونسيون عن صحة رؤسائهم، فقد عاشوا منذ آخر الستينيات برئيس في حالة صحية حرجة، حتى صار حديثهم اليومي في فترة زمنية: هل أصبح الرئيس حيا؟ ثم يبيتون على سؤال: هل يموت الليلة؟ لكن الرئيس المريض لم يترك منصبه أبدا حتى سحب من تحته الكرسي، ثم حلت فترة أخرى كنا نتابع أخبار بروستاتا الرئيس وسرطاناته الكثيرة، وكانت إشاعات أسفاره للعلاج تقترن بتمنيات سقوط طائرته.
لقد بلغ اليأس بالتونسيين ذات يوم أن صار تمني الموت هو الأمل الوحيد بالخلاص من الدكتاتورية، وقد تبين أن الدكتاتور كان يطلق إشاعات عن مرضه ليعطي أملا كاذبا للشارع أن قد قرب الخلاص.
الوضع الهش للدولة وللنظام السياسي المرتبط بصحة رجل مريض؛ يتواصل الآن، لكن في وضع مختلف نسبيا. إنهم يتمنون بقاء الرئيس ولا يرغبون في ذهابه
هذا الوضع الهش للدولة وللنظام السياسي المرتبط بصحة رجل مريض؛ يتواصل الآن، لكن في وضع مختلف نسبيا. إنهم يتمنون بقاء الرئيس ولا يرغبون في ذهابه. لقد ملك التونسيون حق انتخاب رئيس كل خمس سنوات، ولم تعد هناك رئاسة مدى الحياة (على الأقل) لرئيس يوشك أن يختم القرن على سطح الأرض. لكن لماذا ارتعبت النخبة السياسة من موته المحتمل قبل استنفاد مدته الرئاسية؟
زعماء كثر ولا رئيس
عندما نستذكر الانتخابات الرئاسية لسنة 2014، نجد أن كل تونسي يرى في نفسه الكفاءة ليكون رئيسا للبلد. فقد تهاطلت الأسماء على الهيئة الانتخابية، واقتضى الأمر فرزا انتخابيا أولا، لتسقط الأسماء النكرات التي ظهرت فجأة (ثم اختفت بعد الانتخابات كأن لم تكن). فسر ذلك في حينه بفرحة الحرية، والشعور بالظفر على الدكتاتورية التي جعلت المنصب محفوفا بقداسة إلهية. لكن أكثر من الفرحة بالحرية؛ يبدو أن الساحة مليئة بالزعماء الذين لا يقبلون التفاوض حول رغباتهم في الحكم والسيطرة، لذلك تقدم الجميع وخسر. ويبدو مرة أخرى أن هذا الوضع مستمر، لذلك لم نر إجماعا حول شخص يمكن تقديمه في حالة شغور المنصب فجأة بالموت. الجميع يتمسك بزعامته في حزيبه أو في شرنقته الفكرية التي انتمى إليها منذ دهر سحيق، هذا فضلا عن أسماء نكرات أخرى تتكلم عن رغبتها في المنصب سنة 2019، دون أن يكون لها أي رصيد (تاريخ) سياسي أو فكري أو برامجي.. الرغبة في المنصب هي المحرك الوحيد.
قد يكون بعض هؤلاء فرح في سره بإشاعة موت الرئيس، لكن لا أحد من الأسماء ملك شجاعة القول بأن البلد لن يسقط في الفراغ لو حصل ذلك. لقد اختفوا جميعهم خلف نبل مصطنع؛ بأن الإشاعة لا أخلاقية، وتجب معاقبة العابثين.. لقد انكشف الخوف.
وضع البلد مخيف
التقدم للرئاسة الآن، أو بعد سنتين، سيكون مذبحة حقيقية لكل الطامعين. فالبلد في أزمة حقيقية، وقد صار غير قابل للحكم. ويقول المتفاصحون في وسائل إعلام النظام؛ إن الشعب التونسي يتدلل على الحكومة، وله مطالب كثيرة لا يمكن تلبيتها. ولكن هؤلاء المتفاصحين يغطّون بذلك على استشراس لوبيات المال والأعمال التي تمكنت من رقبة الحكومات المتعاقبة، وفرضت عليها أجندات غير شعبية، بما أفقد الناس الأمل في تغيير حقيقي، وأنتج حالة يأس خانقة قد تكون فيها بذور تمرد شعبي لا يبقي ولا يذر.
البلد الآن موشك على الإفلاس، والحكومات عاجزة عن الخروج من الأزمة. لقد سقطت هيبتها من نفوس الناس
البلد الآن موشك على الإفلاس، والحكومات عاجزة عن الخروج من الأزمة. لقد سقطت هيبتها من نفوس الناس، فلم تعد تُشعر أحدا بالخوف، كما لم تعد تبث أي رسائل طمأنينة في النفوس. فحتى باعة البطاطس سخروا من رئيس الحكومة؛ وهو يحاول في حركة مهرجانية أن يقاوم الاحتكار في سوق الجملة.
سقوط الحكومة من نفوس الناس، ومحاولتها ترميم ذلك ببعض الخروج الاستعراضي للأمن ضد تحركات شعبية؛ أجهز على الحد الأدنى الأخلاقي القائم الآن. ومما زاد الأمر ترديا، إشاعات الفساد المستشري بين بعض وزرائها، والحديث الدائم عن تغييرها لعدم الكفاءة. فهي في نفوس الناس حكومة مؤقتة، أو حكومة في انتظار التغيير.
كل هذه العوامل جعلت البلد غير قابل للحكم، وجعلت التصدي لإدارته مغامرة مرعبة ظهرت في ردة الفعل على إشاعة موت الرئيس، فكأن لسان حال النخب يقول للرئيس: عش دهرا ولا تورطنا في حل المشاكل الحالية، فنحن لسنا قادرين عليها.
هذا الكلام لا يغفل أن الرئيس، وطبقا للدستور الحالي، ليس معنيا بشكل مباشر بشؤون الحكم اليومية. فصلاحيات رئيس الحكومة كبيرة في إدارة البلد، ولكن الرئيس هو الذي يعين رئيس الحكومة، فمن أين سيجد رئيس جديد (منتخب) رئيس حكومة قادرا على التكفل بالأزمة، وإخراج البلد من خطر التردي والانهيار؟ هذا الاحتمال يعني تنظيم انتخابات برلمانية سابقة لأوانها، وإفراز برلمان جديد. فهل الساحة السياسية جاهزة لذلك؟
هنا يتجلى سبب الحرص على صحة الرئيس، أو في الواقع الخوف من اختفائه الفجائي. فالجميع يعرف الأزمة وعمقها، والجميع يخافها، وليس لديه حلول لقيادة البلد. لذلك، فهم في وضع "تمسك بالسيئ الذي بين يديك أفضل لك من الأسوأ القادم".
نخبة البلد مرعوبة من تحمل مسؤولياتها؛ بما يجعلها عاجزة عن الحكم، وتدفعه عنها إلى مجهول، كأنه كرة لهب وقعت عليها من السماء
تتضح الصورة الآن.. نخبة البلد مرعوبة من تحمل مسؤولياتها؛ بما يجعلها عاجزة عن الحكم، وتدفعه عنها إلى مجهول، كأنه كرة لهب وقعت عليها من السماء.
لقد عاشت تتمنى الخلاص من الدكتاتورية بالموت؛ دون مقاومة تذكر لإسقاطها (حتى وفر عليها الشارع العناء)، وهي الآن في مرحلة اشتهاء البقاء الأبدي للرئيس؛ كي ينقذها من الحكم ومن المسؤولية. (ولن تفلح حتى يوفر عليها الشارع العناء مرة ثانية، وهذا حديث قادم).
إنه وضع كاريكاتوري، فالبلد المشدود في كحة مصاب بذات الرئة (الربو المزمن)، وهو يسعل بلغما كثيرا على شكل كتل نخبوية تحب متعة الحكم دون عناء مسؤولياته. لذلك، أتوسل إلى الرئيس.. لا ترسل ورائي مخبريك، فهذا المقال يدعو لك بطول البقاء. فعش دهرا أيها الرئيس، لقد عقمت نساء تونس أن يلدن مثلك.