يركب السيسي وجماعته العصبي، من مجرد الدعوة لمقاطعة ما يسمى بالانتخابات الرئاسية، ولهذا فإنهم لإبطال هذه الدعوة، يطلبون من الناس أن يكونوا إيجابيين؛ حيث لا تتحقق الإيجابية إلا بالمشاركة، ولو بإبطال الصوت!
عندما قاطعت المعارضة الانتخابات البرلمانية في سنة 1990، كنت ضد الفكرة، وعندما فعلت مع دعوة الرئيس محمد مرسي لانتخابات البرلمان، كان لي نفس الرأي، لكن في الحالتين كانت هناك انتخابات، وكانت الدعوة للمشاركة لا تعني فقط مجرد الحضور للجان، فهناك فرصة للترشح لكل من تنطبق عليه الشروط الموضوعية، مما يعني أن الأمر مختلف في الحالتين عن المهزلة التي تحدث الآن، حيث أن عبد الفتاح السيسي يتحدى الملل، ويخوض الانتخابات منافساً لنفسه، وقد منع بقوة السلاح المنافسين الجادين من خوضها، رغم أنهم قرروا الترشح في انتخابات تفتقد لضمانات النزاهة ولو في حدها الأدنى!
يركب السيسي وجماعته العصبي، من مجرد الدعوة لمقاطعة ما يسمى بالانتخابات الرئاسية
في سنة 1990، كان رؤساء الأحزاب قد اجتمعوا في حزب "الوفد"، وهناك كان الاتفاق المبدئي على مقاطعة
الانتخابات، على أن يعرض كل رئيس حزب الأمر على حزبه لاتخاذ قرار بذلك. وفي طريق عودته من الاجتماع، كان مصطفى كامل مراد، رئيس حزب "الأحرار" غاضباً لذلك، ويقول إن الدعوة للمقاطعة يقف وراءها الدكتور وحيد رأفت، نائب رئيس حزب "الوفد" والفقيه الدستوري المعروف. وكان رأي "مراد" أنه رجل قانون وليس رجل سياسة، وأن السياسي لا يقاطع. ومع ذلك، فقد تبنى داخل الحزب المقاطعة، واستمر في قراره، حتى لا يخرج عن إجماع أحزاب المعارضة!
وقد اتصل الرئيس مبارك بمصطفى مراد هاتفياً لكي يعدل عن القرار، لكنه رفض، فما كان له أن يتراجع عن قرار اتخذته الأحزاب، فالتقى الرئيس بفؤاد سراج الدين، ونشرت الصحف صورة هذا اللقاء، وأذاع التلفزيون الرسمي الخبر، وفشلت مساعي مبارك، في دفعه للعدول عن قرار المقاطعة.
كانت المعارضة تطلب ضمانات لنزاهة الانتخابات، وأن يتم وقف العمل بقانون الطوارئ الذي كان مبارك يبدو متمسكاً به؛ ربما لحالة نفسية، فلم يكن بحاجة إليه، ولم يكن يطبقه بحذافيره، وكان تطبيقه يتم في الأغلب على الجماعات الدينية المتشددة، فقد توقف عن اعتقال المعارضين من أهل اليسار، فما كان يقلق نظام مبارك هو تنامي شعبية "الوفد"، كما كان يقلقه اليمين الديني!
كان رأيي أن خوض الانتخابات ولو بدون ضمانات، أفضل من مقاطعتها، وأن على المعارضة أن تناضل بالمشاركة حتى تدفع الجماهير لحماية إرادتها. وكانت
مصر قد شهدت تجربتين برلمانيتين لا بأس بهما، الأولى في برلمان (1987-1984) والثانية في برلمان (1987-1990). وفي الأولى تحالف "الوفد" مع "الإخوان"، ومثّل "الوفد" زعامة المعارضة، وفي الثانية تحالف حزبا "العمل" و"الأحرار" مع جماعة "الاخوان"، في ما سمي بالتحالف الإسلامي، وكانت زعامة المعارضة في البرلمان من نصيب حزب "العمل"، وإن حضر "الوفد" بقوة. ووقف مبارك ضد التحالف في الحالتين، وعمل على إفشالهما، وفشل. وكان أداء المعارضة في البرلمان قد خلق وعياً سياسياً في الشارع، مع وجود برلمانيين من الوزن الثقيل من المعارضين، مثل ممتاز نصار، وصلاح أبو إسماعيل، وعلوي حافظ!
وكان رأيي أن هذه خطوة ينبغي البناء عليها، وحدث ما خشيته، حيث ضعفت المعارضة بقرار المقاطعة، وذبلت، حتى جاءت انتخابات سنة 2000 وهي في أضعف حالاتها. وعندما قضت المحكمة الدستورية العليا بفرض الإشراف القضائي على الانتخابات، لم تكن هذه الأحزاب مستعدة لها، وإذ تمرد كثيرون ممن ينتمون للحزب الحاكم على قرار استبعادهم من الترشح على قوائم الحزب، وترشحوا مستقلين، فلم يجد الناخبون سواهم ليصوتوا لهم نكاية في الحزب الحاكم الذي لم يتحصل في هذه الانتخابات سوى على 33 في المئة من المقاعد، وذلك بعد أن قبل بترشيح بعض المستقلين على قوائمه في جولة الإعادة، ثم أعاد ضم الفائزين إليه ليحصل على الأغلبية المريحة!
وفي عهد الرئيس محمد مرسي، وعندما بدأ الحديث عن انتخابات برلمانية، عطلها القضاء في المرة الأولى، لتتم لها الدعوة من جديد، كنت من أشد المتحمسين لها، لكن المعارضة دعت في المرة الثانية لمقاطعتها. وكانت قد استعدت لها في المرة الأولى، وكان رأيي أن الدعوة للمقاطعة تمثل خطأ سياسياً قبل به من تصدروا المشهد وهم من غير السياسيين، أو ممن جاؤوا للشارع السياسي لتسلية أوقات فراغهم وقد تقاعدوا وظيفياً، مثل الأطباء: محمد أبو الغار، وعبد الجليل مصطفى، ومحمد غنيم!
لم يكن أحد يساوره شك في أنها ستكون انتخابات نزيهة، وإذا كانت المعارضة تدعو لانتخابات رئاسية مبكرة، فالمعنى أنها تدرك أن الجماهير قد ولت ظهورها للمرشح الإسلامي، وإلا فلا معنى لهذه الدعوة إذا كانت ستجرى الانتخابات، فيفوز الرئيس محمد مرسي، وربما يفوز حازم أبو إسماعيل، إذا تم إلغاء الشرط المتعسف في الدستور الخاص بألا يكون هو أو أي من ولديه قد حملوا جنسية دولة أجنبية!
الذهاب إلى اللجان الآن ليس عملاً ايجابياً، وإنما يدخل في باب القوادة السياسية، وفي انتخابات بلا مرشحين، ويراد للناس أن تحضر لاستكمال الشكل أمام الغرب، والإيحاء بأن مصر تشهد انتخابات فعلا
كنت أقف في جبهة المعارضة للرئيس وجماعته، وكان الرأي أنه إذا سلمنا بأن الأغلبية معنا، أو أننا نستطيع أن نقيم تحالفاً مع إسلاميين من غير الإخوان، فتستطيع القوى المدنية تولي رئاسة مجلس الشعب، وتشكيل هيئة مكتبه، ومن خلال هذه الأغلبية يتم تعديل الدستور لسحب اختصاصات رئيس الجمهورية؛ لكي يكمل دورته بدون الصلاحيات التي يمكن بها تدمير مصر، وهو الشعار الذي كان يرفعه من يدعون لانتخابات رئاسية مبكرة!
قلت كلاماً كهذا في برنامج تلفزيوني مثلت فيه الرأي الرافض للمقاطعة، وكان يمثل الرأي الآخر صديقنا "فريد زهران"، رئيس الحزب الاجتماعي الآن، وقبل أن ندلف للأستوديو وفي "الفواصل"، كان الرجل يقول إنه مع رأيي، لكنه لا يستطيع أن يخرج على الالتزام الحزبي. وقد اعتبرت هذا من أمانات المجالس، فلم أذعه سوى الآن، فلم يعد لكتمانه معنى!
ولا شك في أن المقولة التي تتردد الآن، حول أهمية المشاركة، برفع شعار "شارك وأبطل صوتك"، مستمدة من هذه التجارب، وهو قياس فاسد؛ لأن المقاطعة في السابق كانت بعدم الدفع بمرشحين، لكنها الآن بعدم الدفع بالناخبين الذين يراد لهم أن يكونوا شهود زور في هذه المسرحية!
فالذهاب إلى اللجان ليس عملاً ايجابياً، وإنما يدخل في باب القوادة السياسية، وفي انتخابات بلا مرشحين،
ويراد للناس أن تحضر لاستكمال الشكل أمام الغرب، والإيحاء بأن مصر تشهد انتخابات فعلا، ولا يهم بعد ذلك إن أبطلوا أصواتهم جميعا؛ لأن النتيجة ستعلن بالشكل الذي تريده السلطة الحاكمة، فالمهم ألا تظهر اللجان خاوية على عروشها، كما كان الحال عليه في انتخابات 2014.
قياس فاسد؛ لأنها انتخابات يجريها انقلاب عسكري، وهناك من يقاطعونها لعدم شرعية من يجرونها، وهي وجهة نظر معتبرة، فحتى الذين يقولون بأن 30 حزيران/ يونيو ثورة شعبية، تدخل الجيش انحيازاً منه للشعب، يدركون أن ما جرى بعد ذلك كان انقلاباً. فقد كان مطلب من خرجوا في هذا اليوم المشؤوم في تاريخ مصر؛ اجراء انتخابات رئاسية مبكرة،
فاستولى السيسي على الحكم، وهو الذي قال إن الجيش ليس راغباً في سلطة أو في حكم. وبمفهوم المخالفة، فإن الرغبة هنا تعني اعترافاً بأنه انقلاب، فما بالنا بأن الأمر تجاوز هذه الرغبة!
إنهم منزعجون من الدعوة لمقاطعة الانتخابات.. فأين هي الانتخابات؟!
وإذا كان هناك من رأوا ضرورة مسايرة الوضع القائم والتغيير بالانتخابات، فقد تقرر ابتداء أن تكون استفتاء على شخص المرشح الواحد الذي يحتكر المشهد، فيرى نفسه الدولة والجيش معاً، وأنه يمكن القضاء على الدولة بعد التخلص منه ومن الجيش، ولا يريد أن يمثل دور المرشح المنتهية ولايته، ويصدر فكرة أنه قد يغادر إن لم يوفق في الانتخابات!
لأن الدعوة للمقاطعة تزعجهم، فهم يتهمون الداعين لها بارتكاب جريمة ينبغي أن يحاسبوا عليها، كما قال الموظف في البلاط ضياء رشوان!
إنهم منزعجون من الدعوة لمقاطعة الانتخابات.. فأين هي الانتخابات؟!