لم
تعد
جرائم الإبادة الجماعية تثير عطف الكثيرين ونخوتهم! ملّت الأقوام في الشرق
والغرب من صور القتلى في
سوريا، ومشاهد استخراج الأطفال أحياءً أو أمواتاً من تحت
الأنقاض. الصور ليست مزوّرة، كما يدّعي النظام، وإنما قلّتْ فعاليتها العاطفية
والإخبارية، بسبب التعويم والكثرة والتعريض الطويل للشمس والرطوبة السياسة.
وكانت
الجرائم أحد أسباب بيع الصحف، في كراجات السفر السورية، والمصريون معروفون بخفة
الظل في تسمية الأحداث، فيسمّون الحوادث بأسماء ظريفة، مثل "فتاة المول"،
و"امرأة العربة"، و"عريان الاتحادية"، إلا زبيدة سُميتْ
حالتها باسمها.
ومثلها
أبو مروان، سميت الجريمة باسمه، وقد تسنّى لي مشاهدة الفيديو مع بعض الشباب الذين
كانوا يعرضونه ويضحكون، مع أنها جريمة قتل، مع سبق الإجرام والترصد، بأربع طعنات..
هو مسلح بسكين، وهي عزلاء، وربما غدرها غدراً.
ربما
كانوا يضحكون من جهله، أو من مصطلحاته الألمانية المعربة المضحكة مثل
"الملدنة" و"الأوكا".
وكان أبو مروان الهلالي يصوّر نفسه حصرياً في بث
مباشر بعد ارتكابه الجريمة، ويظهر انه جرح نفسه بعد مقاومة من الضحية، ويتضرع إلى
المشاهد لإسعافه بإعجابات تغفر له بعضاً من ذنبه الكبير، فكأنه قتل الناس جميعا،
ويطالب الناس بصابون اللايكات: خيال الزرقاء يرحب حتى بوجه غضبان في صفحة فيسبوك يا
أيها الربع، وكانت إصبعه تنزف، وقد عرضها عدة مرات، وحاول الاختباء خلفها، كأنه يقول: إنني أيضاً أنزف، وبذلت دمي في سبيل القضية.
وكرر ما قاله في الفلم القصير، وهو يمشي، ومعه
هاتفه، وابنه أحمد خلفه، يطلب شفاعته، فهو يدرك أثر الأطفال العاطفي في الناس،
فينبري الغلام لسبّ أمه بألفاظ مقذعة، مثل أبيه، الذي انتبه متأخراً بعد ألف كف
على غفلة، فارتكب جريمة الشرف. وتقول شهادات إن الجريمة من أجل حفنة دولارات.
وحاول القاتل عدة مرات استعطاف الجمهور طائفياً بذكر طائفة خصمه الشيعي، لكنه قتل
زوجته، عفوا طليقته، السنيّة! ويقال: إن الزوج الثاني، تزوج زوجته بصفقة من أجل
العبور "الشرعي"، وحاول الإيهام مرة أخرى، بجعل الجريمة فعلاً من أفعال
المروءة والشهامة، يروّع فيه كل زوجة سورية، تفكر بخيانة زوجها.
حاول أبو مروان تأميم جريمته، وكأنها سدّ
الفرات، أو قناة السويس.
وترافق
مع فيلم "أبو مروان، فيلم آخر؛ لسوري قال إنه صحفي، واسمه وسيم ذكور، يهدد
فيها البنات والزوجات بأشنع الألفاظ، مع أنه أعزب، كما يقول، لكنه بدأ الهجوم
الوقائي على السوريات، وخلفه علم الثورة مزينا بعلب دخان حمراء قصيرة، فخر الصناعة
السورية. كلاهما مناضلان! وكنا قرأنا أو شاهدنا صوراً لجرائم سورية في ألمانيا،
يقتل فيها زوج أطفاله وزوجته، وآخر يتعرى في ساحة المخيم، وهو يشكو زوجته التي
تبيع جسدها، وتقارير صحفية ألمانية عن انتشار الدعارة في المخيمات.
كنا
نريد أن نميت الباطل بالسكوت عنه، والله أمر بالستر، لكن أبى القاتل إلا فضح نفسه
وأسرته وقومه. ليست سوريا وحدها تتفكك، فالأسرة السورية تتحلل في فرن المنفى. ونجد
في لسان العرب أن الأسرة مشتقة من فعل "أسر" (الأُسْرَةُ: الدِّرْعُ
الْحَصِينَةُ، والأُسْرَةُ: عَشِيرَةُ الرَّجُلِ وأَهل بَيْتِهِ). وقد انفك القيد،
وانحلت الرابطة في المنفى وذاب الدرع. وقد تراخت بنزوحها أو بغياب أحد الوالدين،
فسابت الأسرة، تحت ثقل الحاجة، أو الرغبات الأسيرة والمتفجرة.
وكانت
الأنظمة العربية في مصر وسوريا، قد انتبهت مبكراً، إلى تدمير أسر خصومها، بأسر
معيلها، ودفع الزوجة والأولاد إلى سوق العمل، ولا سوق للعمل في بلاد العرب، سوى في
الشوارع.
قرن
القرآن الكريم الخروج من الديار بالقتل، "وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ
أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ
إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ
خَيْرا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا". وفي الأخبار أن امرأة اشتكت إلى عمر بن
الخطاب تريد الطلاق من زوجها بذريعة أنها لا تحبه، فأجابها جواباً يستحق أن يدّرس
في العلوم الاجتماعية.
قال
عمر لامرأة سألها زوجها هل تبغضه؟ فقالت: نعم، فقال لها عمر: "فلتكذب إحداكن
ولتجمل، فليس كل البيوت تبنى على الحب، ولكن معاشرة على الأحساب والإسلام". وفي
رواية: أن رجلاً جاء إلى عمر يريد أن يطلق زوجته، معللاً ذلك بأنه لا يحبها، فقال
له عمر: ويحك، ألم تُبْنَ البيوت إلا على الحب؟ فأين الرعاية وأين التذمم؟
والتذمم
هو الإحسان إلى من يذم بترك الإحسان. وفي مرة ثالثة قال: فإن أقل البيوت الذي يبنى
على الحب، ولكن الناس يتعاشرون بالإسلام والإحسان. والأمثلة المذكورة، لا تندرج في
هذين السياقين، فثمة جريمة قتل، والتعليقات تناصر هذا حيناً، وتناصر الضحية
أحياناً. وكل حسب فهمه وتجربته الاجتماعية، والضحية سكتت إلى الأبد، والغلام
اللاحق بأبيه لا يلام، لأنه لم يبلغ الرشد بعد، إلا أن الغرض من هذا المقال، هو أن
القول الأسرة السورية تتمزق، فحتى الأسر التي وصلت كاملة العدد تعاني من الملل،
والضجر، والضياع، والعدمية، فالأب غالباً لا يعمل، والعمل شرط من شروط الولاية على
الأسرة، والملل والضجر والمكوث في البيت، يجرّ الخصومة والعطالة. والأسرة السورية
لا تزال أسرة ممتدة إلى الأقارب والحي والجماعة، وقد تفرقوا.
وقد
قلَّ التذمم، وتقطعت الأنساب، وزاد الدين زيادةً منكرة، والزيادة مثل النقصان في
الإسلام. والمرأة في البلاد العربية كلها أقل من الرجل. وقد وجدت في المنفى الأوروبي
فسحة من الحرية، فتمردت، أو ثارت، وحاولت إدراك ما فاتها من الحياة، أو الكرامة.
فالضحية غالباً تنتقم من الجلاد، ولا نعرف أسباب هذه الجرائم، لكننا نسعى إلى
توصيف عام. والقوانين الأوروبية تميل إلى نصرة المرأة ظالماً، أو مظلوماً، تعويضاً
عن القرون التي ظلمتها فيها، أو تميل ميلاناً إلى هجاء دين النازحين وأعرافهم. فهي
بقوانينها تزيد الفرقة والشقاق بين الزوجين. وكان الأهل يسعون بالإصلاح بين
الزوجين، فلا أهلٌ خارج الوطن. فقدَ الأب ولايته، بل إنه يتبع ابنه، أو ابنته، لأن
الأولاد يتعلمون اللغة الجديدة، أسرع من الآباء، فتخلخل بينان الأسرة من قمتها
والقواعد فخر عليهم السقف.
عودة
إلى فيلم أبي خيال الزرقاء: كان الشباب يضحكون من أبي مروان، وهو ينتظر الشرطة،
ويمشي ويعرض إصبعه الجريحة، ويحتكر الظهور على الشاشة، حارما ابنه الحافي من الظهور،
ويكاد يطالبنا ببوس الواوا، وهو يعرض علامة رابعة السورية، ويحاول الاختباء وراء
إصبعه، ويسرق المشهد من شهداء الغوطة، ويسلم على الجار الألماني، ولم ينقص الفيلم
سوى موسيقا "من أجل حفنة من الدولارات".
مَسَّنَا
وَأَهْلَنَا الضُّرُّ، بل إنه أصابنا في مقتل.