كان محمد الصياح، الذي فارق الحياة خلال الأسبوع الماضي، بمثابة الابن المدلل للرئيس الحبيب
بورقيبة. وقد كانت كل المؤشرات تدل على أنه المرشح الأكثر حظا لخلافته، لكن - كما يقال - تتدخل القصص الصغيرة في آخر لحظة لتغير مجرى التاريخ. فابنة شقيقة بورقيبة، سعيدة ساسي، تمكنت في الفترة الأخيرة من حكم خالها أن تعزله عن مساعديه، وحتى عن بقية أفراد أسرته، خاصة بعد طلاقه من زوجته القوية وسيلة بن عمار، وأن تقنعه في لحظة ضعف وفي تلك الأجواء المضطربة؛ بأن يعين الجنرال بن علي وزيرا أول، بحجة أن هذا الأخير هو الأقدر على مواجهة خطر
الإسلاميين الذين صعّدوا في تلك الفترة من تحركاتهم ضد النظام. وعندما علم محمد الصياح الذي كان في مهمة حزبية بترقية
ابن علي من وزير للداخلية إلى وزير أول؛ امتقع وجهه وأسقط في يده، وأدرك أن حلمه الكبير قد تبخر نهائيا، وبذلك تغير التاريخ
التونسي إلى حد ما. ولهذا كان من الطبيعي أن يكون هذا الرجل هو أول من تم اعتقاله لفترة وجيزة بعد انقلاب السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر.
آمن الصياح ببورقيبة، كما آمن غيره بماركس ولينين وماو تسيتونغ وكمال أتاتورك. كان يرى فيه شخصية استثنائية تستحق الزعامة والاقتداء به، ولهذا سخّر جزءا من حياته يؤرخ لمسيرة الرجل النضالية، حتى قيل إنه وجد مرة حذاء زعم بأنه يعود إلى الرئيس خلال فترة كفاحه ضد الاستعمار. وقد تكون تلك نكتة لإظهار الصياح في صورة "الانتهازي السياسي" الذي كان يسعى لاستثمار حالة الأنا العالية لدى بورقيبة من أجل كسب ثقته. وهي رواية كانت رائجة جدا، لكن الأيام بينت بعد ذلك أن الرجل بقي شديد الإخلاص لمثله الأعلى، حتى بعد إزالة هذا الأخير من أعلى هرم السلطة ووضعه في إقامة جبرية. وقد بقي يزوره في ملجئه الأخير بعد أن سُمح له بذلك، حتى الأيام الأخيرة من رحيل بورقيبة عن الدنيا، مبديا إخلاصا نادرا في مرحلة انفض خلالها الجميع تقريبا عن مؤسس الدولة، وغيّر الكثيرون أقنعتهم وولاءهم بعد أن باركوا الخطوة "التاريخية" التي أقدم عليها الجنرال.
لم يكن محمد الصياح محبوبا من قبل غالبية الدستوريين الذين كانوا يرون فيه شخصا طموحا ومناورا خطيرا، ولهذا عندما تولى إدارة الحزب الدستوري لم يقدر على ضمان ولاء الجميع، ولم تر فيه نخبة الحزب الشخصية المناسبة لقيادتهم وقيادة البلاد في تلك الأيام الصعبة.
كما أن اليسار الطلابي بالخصوص؛ يتهمه بالوقوف وراء الانقلاب التاريخي على الاتحاد العام لطلبة تونس الذي كان يشكل المنظمة الجامعة للطلبة، والمخبر الأساسي لتكوين الكوادر السياسية والثقافية للمستقبل. كان الطلبة يومها يستعدون لعقد المؤتمر 18 لمنظمتهم، لكنهم فوجئوا بسرقة صناديق الاقتراع من قبل الطلبة الدستوريين، ثم الإعلان عن نجاح مرشحيهم، وبالتالي الاستيلاء على الاتحاد من قبل السلطة. ومنذ ذلك التاريخ ) 1972 ( خاضت فصائل اليسار الطلابي وغيرها معارك طويلة (وعنيفة أحيانا) من أجل إعادة عقد هذا المؤتمر واستعادة المنظمة المختطفة.
كما ترك الصياح وراءه حسابا معقدا مع الاتحاد العام التونسي للشغل. فهذه المنظمة القوية قطعت الحبال التي كانت تربطها بالحزب الدستوري، ودخلت في مواجهة دامية مع السلطة، رغم أن رئيس الاتحاد الحبيب عاشور كان من بين الرجال المخلصين لبورقيبة، ووقف إلى جانبه في مطلع الاستقلال للتخلص من غريمه صالح بن يوسف. يوم الإضراب العام في 26 كانون الثاني/ يناير 1978، اكتشف النقابيون والرأي العام ما سمي يومها بمليشيات قيل إن محمد الصياح هو الذي شكلها لمواجهة النقابيين، وقامت بتعنيف عدد منهم في الشوراع، وذلك قبل الإعلان عن حالة الطوارئ، وتدخل الجيش وإطلاق النار على المعتصمين والمتظاهرين ووفاة أكثر من 300 ضحية، واعتقال القادة النقابيين وتنصيب آخرين بديلا عنهم؛ وُصفوا بـ"الشرفاء". ولذلك سمي ذلك اليوم بالخميس الأسود.
أخيرا ارتبط اسم محمد الصياح بظهور الإسلاميين، وبالمعارك التي خاضوها خلال المرحلة البورقيبية. لا يزال اليساريون يعتقدون بأن الصياح هو الذي كان وراء صعود حركة الاتجاه الإسلامي، وذلك بهدف ضرب الحركة التقدمية الناشئة والصلبة. ويرون أنه لولا دعم السلطة لهم ما تمكنوا من استعمال المساجد، واختراق المعاهد والجامعات. ورغم أن هذه الرواية غير دقيقة من الناحية التاريخية؛ لأن السلطة نفسها فوجئت بهذه الظاهرة ولم تكن يومها تملك الأدوات الكافية لتحليلها واكتشاف خفاياها، مع ذلك استعملت هذه الرواية خلال الصراع السياسي والأيديولوجي بين التيارين الإسلامي واليساري، رغم احتداد الصراع من جهة أخرى بين الإسلاميين والدستوريين، وأدى إلى سلسلة من المحاكمات الشهيرة التي انطلقت مع بداية الثمانينات.
الآن ينام الرجل نومته الأخيرة، بعد أن خضع للمراقبة الأمنية اللصيقة طيلة حكم الرئيس ابن علي الذي بقي يخاف منه؛ رغم أنه تخلى عن جميع أسلحته واكتفى بمراقبة الشأن السياسي عن بعد. لقد استبشر بالثورة، لكنه لم يفعل مثل معظم الدستوريين الذين عادوا من جديد إلى الشأن السياسي بدون بوصلة أو قيادة، وهو ما جعل الكثيرين حتى من خصومه يحترمون فيه هذا الموقف المشرف. السياسة تحتاج إلى بعد نظر، وحد أدنى من نظافة اليد واستحضار دروس الماضي.