مباشرة، عقب حراك الحسيمة، خرجت السلطة السياسية في
المغرب بخطاب مباشر للرأي العام تعلن فيه استنفاذ النموذج التنموي لأغراضه، وفشله في تحقيق التطلعات التي كانت مرجوة منه، ومنها على وجه الخصوص تحقيق العدالة المجالية، بعد أن تم الاشتغال في السنوات الماضية على قضية العدالة الفئوية.
خطاب بدا فيه وقتها قدر غير مسبوق من الوضوح والحقيقة، بالقياس إلى شكل ممارسة السلطة في عدد من الأٌقطار العربية. فقلما يحدث في العالم العربي أن يأتي حاكم ويقول الحقيقة، ويعلن عن فشل رهانات كبرى كانت تشكل أعمدة استراتيجية وعناوين للحكم في مرحلة من المراحل.
لغة الحقيقة التي تكلمت بها السلطة السياسية في المغرب استندت إلى مؤشر الأثر، بالنظر إلى حجم الاحتجاج الهائل في الحسيمة، وتدني مستويات
التنمية بها، مع أنها كانت مشمولة بمشروع ملكي من حجم "الحسيمة منارة المتوسط".
والواقع، أنها ليست المرة الأولى التي تتحدث فيها السلطة السياسية في المغرب بهذه اللغة، فقد سبق أن أعلنت في خطاب سابق خصص لموضوع الثروة عن أزمة مماثلة لأزمة النموذج التنموي، وتم الإقرار بأن عائدات الثروة لا يستفيد منها في المغرب إلا فئة قليلة، وتم على أثر ذلك دعوة المؤسسات المعنية لاحتساب الرأسمال المادي وغير المادي، وتقييم شكل تدبيره.
ابتدأ التفكير في نموذج تنموي جديد مع استفحال أزمة ارتهان الاقتصاد المغربي لعوامل المناخ، وتحولات أسعار النفط الدولية وتحولات الوضع الدولي والإقليمي، بحكم أن الفلاحة كانت تمثل أكثر من خمس الناتج الوطني الخام، وبحكم أن المغرب لا يملك أي ثروة نفطية تقوي مناعته تجاه تقلبات أسعار المحروقات، وأيضا بحكم أنه بلد سياحي، تتأثر فيه السياحة بالاستقرار السياسي وتحولات الظاهرة الإرهابية والتحديات الأمنية في العالم.
اتجه التفكير أولا، لتحرير وضعية الاقتصاد من هذه الوضعية، بالاتجاه أكثر إلى الفلاحة السقوية، باعتماد التقنيات الحديثة، والرهان على التصنيع ليساهم في أفق 2030 بنسبة 23 في المائة من الناتج الوطني الخام، مع الاتجاه إلى الطاقات المتجددة لتقليص الفاتورة الطاقية، والرهان على قاعدة لاستقرار سياسي توفر البيئة الآمنة لتحريك وجذب الاستثمارات خاصة منها الأجنبية، ومساعدة السياحة على الخروج من أزمتها وتحقيق جزء من رهاناتها الحالمة في استقطاب 10 ملايين سائح سنويا.
تقييم هذه التحولات الاستراتيجية في تركيبة النموذج التنموي، يشير إلى حصول تقدم ملموس وغير مسبوق في تاريخ المغرب، ففي ظرف وجيز تحول المغرب إلى أحد أهم البلدان المصنعة للسيارات والمصدرة لها، بفضل استقطابه لعدد من شركات السيارات العالمية، بل أصبح من البلدان التي تستقطب أكبر الشركات العالمية المتخصصة في صناعة الطائرات.
أين المشكلة إذن؟ هل هي في هذه السياسات؟ أم في أثرها؟ أم تبدو المشكلة بشكل أكثر في الانعكاسات الاجتماعية؟
التأمل في خطابي "عدم عدالة توزيع الثروة"، و"أزمة النموذج التنموي" يشير إلى أن المشكلة ليست في السياسات الاستراتيجية، وإنما في أثرها الاجتماعي، وبشكل خاص في محدودية قدرتها على حل مشكلة العدالة المجالية، تلك المشكلة التي أضحت اليوم مفجرة للتعبيرات الاحتجاجية ذات السمات التضامنية القوية.
هل الحل يكمن في السياسة؟ أم في خيارات نظام الحكم الإداري؟
حتى الآن، لا وجود لأي جواب موضوع على طاولة صناع القرار السياسي في المغرب سوى الجهوية المتقدمة، التي لم ينجح المغرب أن ينزلها على أرض الواقع، إذ أصبحت "الجهات" أشبه ما تكون بجمعيات ذات صلاحيات وميزانيات محدودة وسلطة إدارية أقل بالقياس إلى ما يملكه المركز.
يبدو في الظاهر أنه لا حل لمعضلة نموذج تنموي معطوب لا يوزع ثماره إلى إلا على مناطق المركز؛ سوى التوجه نحو هذا الخيار في نظام الحكم الإداري، ووضع البيض كله فيما يسمى مغربيا بـ"الجهوية الموسعة"، بل الرهان أيضا على هذا النموذج لإقناع المجتمع الدولي بمصداقية المبادرة المغربية للحكم الذاتي لحل النزاع في الصحراء.
لكن، خارج موضوع الصحراء التي تحظى بخصوصيتها، فإن الانطلاق في تنزيل هذا الخيار سيفضي في الأخير إلى أن المشكلة في جوهرها في السياسة، وليست في اختيارات الحكم الإداري.
لقد جربت الدولة الاستثمار في السياسات الاجتماعية من بوابة "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية"، وطورت مشاريع مهمة في هذا السياق، وكانت لهذه المبادرة مخرجات مهمة في فك العزلة والقضاء على الهشاشة ودعم المشاريع المدرة للدخل. لكن، رغم كل هذه المجهودات، فإن أثرها لم يستطع أن يخلق الحد الأدنى من الحصانة ضد دواعي التعبيرات الاحتجاجية التي تخرج من الأطراف التي تعاني من الإقصاء من خارطة التنمية (الحسيمة وجرادة حاليا).
الأزمة تكمن في السياسة، وبالتحديد في الانزياح عن تعاقدات دستور فاتح تموز/ يوليوز 2011، ذلك الدستور الذي وضع أسس مصالحة المواطن مع السياسة، وانخراطه في مواكبة ومراقبة ونقد السياسات العمومية، وجعلت العملية الانتخابية قاعدة أساسية لاختيار النخب التي تخرج من رحم الشعب والقادرة على التعبير عن مصالحه وهمومه في كل المناطق، بما في ذلك التي المناطق التي تعتبر ضحايا اللاعدالة المجالية.
كلفة الانزياح عن جوهر السياسة، لم يكن سوى بإعادة وضع البيض كله في سلة أحزاب الولاء، التي تمثل واجهات لوبيات المصالح داخل المؤسسات، والتعبير الأقوى عن رهاناتها ومصالحها، والتي تسير على النقيض من مصالح الفئات والمناطق التي تطالب بالعدالة في الثروة وفي ثمار التنمية.
نعم الجهوية المتقدمة خيار مركزي، وأثبت نجاعته في عدد من الدول ذات النظام الفدرالي أو الاتحادي، لكن الإشكال ليس في خيارات إدارة الحكم، وإنما في التنزيل السياسي لها، هل سيتم الرهان في ذلك على جوهر السياسة، أم على اللعب على تكتيكات النخب من أجل فرض تمثيليات معينة تنتج وضعا مشابها لما كان عليه قبل اللجوء لهذا الخيار؟
سيكون من العبث أن تلجأ السلطة السياسية في المغرب إلى لغة الوضوح والحقيقة، تم يتحول هذا الوضوح، بتكتيكات النخب أو بواجهات لوبيات المصالح، إلى ذريعة للحديث عن عرض سياسي بمواصفات تجيب عن أعطاب النموذج التنموي، أو لإعادة تلميع خيار الجهوية الموسعة دون الحديث عن عطب السياسة وجوهرها المتمثل في علاقة العملية الانتخابية بصناعة النخب التي تدير السياسات، تلك العلاقة التي قدمت تعاقدات دستور فاتح تموز/ يوليو جوابا واضحا عنها، وجاءت تحولات ما بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2016 لتعبث بجميع عناصره.