وقد انفض المولد بإعلان نتيجة ما يسمى بالانتخابات الرئاسية، فهل تشهد الدورة الجديدة من عمر السيسي تغيراً عن سابقتها، فيتخلى عن القبضة الأمنية التي عرفت من حكمه بالضرورة؟!
أدهشنا السيسي وهو يتعامل مع انتخاباته بقلق، مع أنه تمكن من ابعاد كل المرشحين الجادين، وبدا قادراً على أن يجري انتخابات على "مقاسه"، دون أي إدانة دولية، لقيامه باعتقال رئيس أركان حرب الجيش المصري الفريق سامي عنان، واختطاف الفريق أحمد شفيق، وهما من لهما اعتبارهما الدولي، لكن الرئيس الأمريكي الذي صمت على اعتقال رجال أعمال نافذين في السعودية، والاستحواذ على أموالهم بدون محاكمة، فقد صمت ومعه المجتمع الدولي عما جرى في مصر، فالسيسي كنز إسرائيل الاستراتيجي، فضلاً عن أنه حول القادة الغربيين إلى سماسرة سلاح، فمصر الدولة الفقيرة هي الثالثة عالميا في استيراد الأسلحة من الخارج، فقد اشترى عبد الفتاح السيسي صمت الغرب، ولا يوجد في الشارع حراك يوحي بقدرة المصريين على عزله، لذا فلا شيء يدفع لأن يطلبوا منه ولو إجراء انتخابات نزيهة من حيث الشكل!
وقلق السيسي الذي بدا غير مبرر، وحرصه على إحداث خداع بصري من حيث أعداد المحتشدين لانتخابه، هو ترتيب لما هو قادم، وهو جزء من أزمته في هذه الدورة الجديدة!
بتوقيع نواب برلمانه، لم يكن السيسي بحاجة إلى توكيلات المواطنين، لكنه مع ذلك طلب مليون توكيل، وإذ احتشدت الأجهزة الأمنية بمعاونة الجهاز الإداري للدولة، وبسيف السلطة وصلفها لم تتمكن سوى من الحصول على ثلاثمئة ألف توكيل فقط، وكانت هذه أول هزيمة له، وفي الانتخابات وقد احتشدت الأجهزة الأمنية ومعها الجهاز الإداري وأعضاء مجلس النواب، فلم يتمكنوا من إحداث تزاحم أمام اللجان، فتم تعويض هذا بحفلات الزار و"الطبل البلدي"، فتحول الأمر إلى فضيحة بالصوت والصورة وقد نقلت للعالم كله!
كان ما يريده السيسي أن يعلم القابع في البيت الأبيض بأنه مطلوب جماهيري، فيتراجع عن موقفه السابق من رفض تعديل الدستور، وغني عن البيان، أن الحملة لتعديل الدستور قد بدأت في أجازة البرلمان الأخيرة، على أن تكون على جدول أعماله في أكتوبر الماضي، لكن اعتراضاً أمريكياً أنهى المهزلة، فتم تأجيلها للدورة الجديدة!
لا يمكن للسيسي أن يتصور نفسه خارج السلطة، وهو لديه استعداد لأن ينتقل بمصر لتكون سورية من أجل الحفاظ على كرسي الحكم، وإذا خرجت الجماهير للشوارع فلن يتورع عن إصدار أوامره بإطلاق الرصاص الحي عليها "ليمت من يمت ويعش من يعش"، لكن في مقابل ذلك فهل تستجيب جهات التنفيذ لأمره العسكري؟!
إزاء هذا الحرص للبقاء في السلطة لآخر نفس، فتعديل الدستور سيكون مطروحا بقوة خلال الفترة القادمة، وإذ فشل في إرسال رسالة للغرب توحي بأنه "معبود الجماهير"، فلن يمتنع عن فكرة تعديل الدستور، وهذا يلزمه أن تستمر ذات القبضة الأمنية، ربما بشكل أكثر إحكاماً، لأنه يواجه بأزمة حقيقية، لأن تعديل الدستور ليس قراراً داخلياً فحسب، فلابد من أن يحصل على موافقة أمريكية، من المؤكد أن ترامب لن يمنحها له بسهولة، ولن يعطيها له الآن، فسوف يسوف في عملية المنح إلى السنة الأخيرة من دورته الحالية، لمزيد من التنازلات في المواقف، ومن الأموال في صفقات السلاح، والتي يشتري بها السيسي شرعيته ليس من البيت الأبيض فقط ولكن من دوائر غربية أخرى ومن فرنسا إلى ألماينا!
الدعاية بدأت مبكراً لتعديل الدستور، وبدأت من قبل مصطفى الفقي، وعماد أديب الذي يظهر في الأوقات الأكثر صعوبة للأنظمة الحاكمة، فاستدعي في انتخابات مبارك الأخيرة، كما استدعي لتثبيت أركان حكم المجلس العسكري، وجرى استدعاؤه عندما كان القرار الإطاحة بالرئيس المنتخب، وها هو الآن يعاود إطلالته، التي بدأت كجزء من الحملة الانتخابية للسيسي!
الحديث بدأ من جديد بأن الدستور ليس مقدساً، في حين أن مصطفى الفقي كان أكثر وضوحاً عندما أعلن أن ثماني سنوات رئاسية لا تكفي، وهو دفع الداخل لتقبل التعديل إلى حين الحصول على الموافقة الخارجية!
والداخل لا يستهان به في معركة كهذه، فالدستور وإن كان قد حصن المواد الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية من التعديل، فإن أي تعديل ينبغي أن يحصل على موافقة ثلثي أعضاء البرلمان، قبل أن يعرض الأمر للاستفتاء، فإذا تم القفز على النص المانع من التعديل، فسيكون السيسي أمامه عقبة أخرى هي الاستفتاء!
وهناك درس مهم في هذه الانتخابات، وهو أن الموقف الشعبي لا يستهان به، فإذا تم حمل البعض على التصويت بسيف السلطة، فكان التعامل على أن الإكراه هو ضرورة تقدر بقدرها، وأكاد أجزم بأن الأصوات الباطلة هي أكثر من تلك التي حصل عليها السيسي وتابعه، والاستفتاء أمره مختلف لأن التصويت سيكون بـ (نعم) أو بـ (لا) ويوم أن يقدم السيسي على الاستفتاء، فلن يكون في أقوى حالاته، لأن أمر عدم تمكينه من الاستمرار في الحكم قائم ولو بنسبة ضئيلة، على العكس من انتخابات ينافس فيها ذاته كما حدث في 2014 و2018، فهي انتخابات محسومة قبل أن تجرى!
وفي تقديري أنه عندما يدعى المصريون للاستفتاء على الدستور ستكون دعوة للنفير العام من كل القوى، بما فيها تلك التي تدعو الآن لمقاطعة كل أمر له علاقة بهذه السلطة، وإذا كان التزوير سلاح السلطة، فالقدرة على التزوير لن تكون مطلقة كما هو الحال الآن، بل إن الإرادة الدولية لن تكون مندفعة في حماية السيسي إذا حضرت الجماهير، على العكس من موقفها الآن في ظل قدرة قائد الانقلاب العسكري على قمع معارضية وتأميم الشوارع والميادين!
وهي كلها أمور يفكر فيها السيسي فتجعله أكثر قلقاً، ولا بديل أمامه إلا استمرار قبضته الأمنية، لأن كل يوم يمر دون حصوله على الموافقة الدولية بتعديل الدستور، سيكون سبباً مضاعفاً للقلق، الذي ينتج المزيد من القمع والاستبداد حتى إذا حصل على موافقة ترامب تكون الأمور لا تزال قبضته! فإلى مزيد من القمع والقلق!