لا تعتبر الاونروا المنظمة الدولية والاممية الوحيدة التي تعرضت للاستهداف من قبل الولايات المتحدة الامريكية؛ اذ ان الولايات المتحدة الامريكية انسحبت من مجلس حقوق الانسان ومن قبله اليونسكو؛ كما انسحبت من ميثاق الامم المتحدة للهجرة ؛ اتبعتها بإجراءات منفردة لا تمت لحقوق الانسان والانسانية بصلة من خلال بناء الجدار على الحدود المكسيكية و احتجاز اطفال المهاجرين العابرين الى ارض الاحلام والسجون و مطلقي النار العشوائيين في المدارس والجامعات؛ فالمتتبع لسلسلة الانسحابات الامريكية من الهيئات الدولية والاتفاقات والتحالفات يجد الكثير مما يمكن التعليق عليه.
فنزعة العزلة والانسحاب باتت نمطا ثابتا ومستقرا في السياسة الامريكية؛ نمطا لا يتناسب مع طبيعة المناخ الدولي الذي يتحول شيئا فشيئا نحو التعددية القطبية ونمط القيادة الجماعية؛ سواء على الصعيد الاقتصادي او العسكري؛ فهناك العديد من الاقطاب الاقتصادية والعسكرية الصاعدة والمنافسة لأمريكا؛ قوى متنوعة جاهزة لملء الفراغ الناجم عن العزلة والانكفاء الامريكي؛ بل ان منطقتنا العربية في "غرب اسيا" تزخر بالعديد من القوى الاقليمية الناهضة كتركيا وايران وباكستان؛ قوى قادرة على لعب ادوار سياسية واقتصادية تعوض عن الانكفاء الامريكي المتوقع في السنوات القادمة؛ فالتهديد بالعزلة والانكفاء الذي يترافق مع ابتزاز امريكي لا يتناسب مع حقيقة المناخ الدولي والاقليمي المتغير.
وبالنظر الى الكيفية التي واجهت فيها المؤسسات والمنظمات الدولية التي تعاملت مع الانسحابات الامريكية المفاجئة يمكن التعرف على نموذج فعال لمواجهة التحدي الامريكي؛ فتأثير الولايات المتحدة كان محدودا على المؤسسات والمنظمات والتجمعات الاقتصادية التي انسحبت منها؛ ويمكن القول انه اتخذ مسارا ايجابيا في بعض الحالات؛ ذلك ان المؤسسات والهيئات الدولية باتت اكثر تحررا من التسلط الامريكي والوعيد والتخريب الذي كانت تمارسه بحجة الدفاع عن القيم الامريكية (قيم انجيلية متطرفة في اغلبها) بممارسة الابتزاز باعتبارها الدولة المانحة الاكبر لهذه الهيئات؛ مسألة يمكن تلمسها عند معالجة الانسحاب الامريكي من الميثاق الاممي للمهاجرين و مجلس حقوق الانسان واليونسكو اذ سرعان ما تعافت هذه الهيئات من الصدمة وتجاوزت العقدة الامريكية.
الامر ذاته يمكن ملاحظته في وكالة الامم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الاونروا UNRWA) فبعد التهديد والوعيد بتقليص مساهمتها في موازنة الوكالة؛ وتنفيذ تهديداتها بتقليص المساعدات المقدرة باكثر من 365 مليون دولار الى 65 مليون؛ تداعت الدول لتغطية العجز الامريكي واحتواء الاثار السلبية لهذ الانسحاب؛ فالعجز التقليدي الذي تعاني منه الوكالة سنويا والمقدر بـ 95 مليون دولار لم يرتفع الا بمقدار عشرة ملايين دولار؛ ليصعد بعد الاقتطاعات والعقوبات الامريكية الى 105 ملايين دولار مضعفا تأثير وفاعلية التهديدات الامريكية شكلا ومضمونا والي كان من المتوقع ان تخلق عجزا يفوق الـ400 مليون دولار؛ دافعا الادارة الامريكية المحبطة الى اتباع اساليب استفزازية ومنفرة للدول المستضيفة على امل استكمال مشروعه البائس بتصفية الوكالة الدولية.
غير ان امريكا بموقفها وسلوكها العدواني الموجهة للأونروا واللاجئين الفلسطينيين والدول المضيفة تفاقم عزلتها وتقلص من قدرتها على التأثير مسالة لم يلاحظها الكثيرون بعد؛ اذ باتت اقل قدرة على ابتزاز الشعب الفلسطيني بالتهديد بقطع الدعم والمساعدات؛ فالبدائل الدولية متوفرة والقوى الصاعدة والطامحة لملء الفراغ جاهزة؛ فالصين على سبيل المثال اعلنت غير مرة استعدادها لملء الفراغ بل و قيادة العولمة ايضا؛ اذ قابل النمط الامريكي للعزلة نمط صيني للانفتاح بعد ان اعلنت التزامها بالاتفاقية الدولية للمناخ؛ واصبحت فاعلا باشراك جنودها في عمليات حفظ السلام "القبعات الزرق".
التباكي على الدعم الامريكي مسالة باتت من الماضي؛ والدول المضيفة والمؤسسات الفلسطينية بشقها الرسمي والاهلي بات اكثر ادراكا لمسؤولياتها لبذل المزيد من الجهود للحفاظ على اهتمام المانحين الذين اسهموا في تغطية العجز؛ وتشجيعهم على بذل المزيد اسوة بباقي المنظمات والمؤسسات الدولية؛ وعدم الارتهان للمزاج الامريكي المتقلب اسوة بالهيئات الدولية التي واجهت التهديد الامريكي بشجاعة ومرونة عالية؛ بل واصبحوا اقدر على ادارة الموارد مستقبلا بفاعلية اكبر في حال سارعوا الى محاورة الدول المانحة والمضيفة متجاوزين العائق الامريكي.
العالم تغيير والقدرة على المناورة وايجاد البدائل والتعافي من الصدمات لم تعد مسالة مستحيلة؛ الا انها تحتاج الى بذل المزيد من الجهد للخروج من الصندوق المغلق الذي استنفذ كل اوراقه؛ فما ينطبق على اليونسكو ومجلس حقوق الانسان ينطبق على الاونروا وغيرها؛ اذ لا تستطيع الولايات المتحدة تمرير مشاريعها او برامجها واجندتها السياسية والايدولوجية؛ التي باتت نمطا مكشوفا يعكس هواجس يمينية متطرفة مسكونة بنهاية العالم والخزعبلات؛ يمين داعم لخطوات ترمب الاستعراضية والانتخابية للانسحاب من اتفاقية المناخ وميثاق الهجرة ومجلس حقوق الانسان واليونسكو والشراكة عبر الهادي (TPP) والاونروا؛ فالحسابات الامريكية الداخلية افقدت امريكا حلفائها ودفعت للعمل على ايجاد بدائل كما فعل الاوربيون ومن قبلهم اليابانيون والاستراليون بالحفاظ على اتفاقية الشراكة عبر الهادي التي انسحبت منها امريكا؛ او بالعمل على تفعيل الاتفاقات الامنية والاجسام العسكرية الاوروبية.
السياسة الامريكية تقود بشكل متسارع الى افقادها مكانتها كدولة قائدة ومؤثرة في النظام الدولي فهذا هو النمط المتولد عن السياسة الامريكية المرتبكة والمتهورة؛ لتتحول الى دولة معزولة غارقة في الصراعات الداخلية والمقولات الايدولوجية المتطرفة والمبهمة؛ عزلة افقدتها ثقة حلفائها واصدقائها واطلقت الطاقات الكامنة لمنافسيها وخصومها وفتحت الباب لفرص وافاق جديدة.
ختاما؛ الاونروا ليست استثناء اذ واجهت العديد من المؤسسات والمنظمات الدولية التحدي الامريكي وتجاوزته بل وقدمت نموذجا يحتذى به؛ كما ان الفلسطينيين والعرب ليسوا استثناء اذ واجه الاوروبيون والاستراليون واليابانيون والمكسيكيون والكنديون خذلان حليفهم الامريكي ونزعته اليمينية بمزيد من الاعتماد على الذات والانفتاح على الصين والعالم من حولهم وهو نموذج ثاني يقتدى به؛ كما واجهت الصين وروسيا وتركيا وايران العقوبات الامريكية بمزيد من التقارب والانفتاح مع القوى الدولية والكيانات الهياكل المؤسسية المستاءة من السلوك الامريكي الانعزالي والعدواني؛ فما تواجهه الاونروا ومن خلفها الفلسطينيون لا يعتبر استثناء ؛ بل تحدي يستحق خوضه لان النتائج المتوقعة والثمار اكبر بكثير من الخسائر المعلنة والقصيرة المدى و التأثير.