إضرابان عامان لنقابة العمال الرئيسية الاتحاد العام
التونسي للشغل في شهر واحد، في زمن الانتقال الديمقراطي ما بعد
الثورة، وإضراب عام يتيم وحيد طيلة 55 عاما في زمن الاستبداد.. إنه استضعاف الدولة وتغول النقابة، التي باتت تضع نفسها حاكما على الحكومات ومتسلطا على السلطة.
إضرابان عامان أحدهما في القطاع العام وثانيهما في الوظيفة العمومية.. ألغي الأول، وكان مقررا ليوم 24 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، بعد مفاوضات طويلة، وبعد الحصول على زيادات كبيرة نسبيا في الرواتب، تراوحت بين 205 و270 دينارا، ولا يزال سيف الإضراب الثاني مرفوعا فوق رأس الحكومة.
حكومة تعاني ميزانيتها العامة من عجز شديد، يتوقع أن تفاقمه الزيادات الأخيرة في الرواتب، لتلجأ البلاد لمزيد من الديون الخارجية التي لا توجهها إلى المشاريع الاستثمارية التي تكبر الثروة الوطنية، بل تستهلكها في ترقيع ميزانيتها، وتنفق منها على الرواتب وصناديق الدعم التي يرفض الاتحاد العام التونسي للشغل التخلي عنها، لما يسببه التخلي عنها من ارتفاع شديد في الأسعار؛ لا تستطيع الطبقتان الوسطى والدنيا تحمله..
لكن الاتحاد الذي يصر على زيادة الرواتب يملك ما يكفي من الجرأة لتحميل الحكومة وحدها مسؤولية الغرق في الدين الخارجي، وكأن الاتحاد ترك لها بابا آخر غير الاقتراض من الخارج.
اتحاد الشغل ولعبة السياسة
باليد اليمنى، أعلن نور الدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل عن إلغاء الإضراب العام المقرر يوم 24 تشرين الأول/ أكتوبر، وباليسرى رفع لافتة التهديد بإضراب عام ثان في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر القادم.. حصل من هنا على مكاسب، وهدد من هناك بالتوتير لتحصيل مزيد من المكاسب.. إنه حلب حكومة ضعيفة، يستغل اتحاد العمال ضعفها، وواحد من أسباب ضعفها هو ما هي فيه من صراع مفتوح مع رئيس الجمهورية.
رئيس الجمهورية الساعي لتوريث السلطة لنجله كان يراهن على اتحاد العمال أداة لإضعاف الحكومة، حتى يمكن له أن يجهز عليها.. ورئيس الحكومة الذي يفكك الألغام المزروعة من حوله، ويرمم صف مناصريه، حتى يضمن البقاء في منصبه، مستعد للتنازل لنقابة العمال حتى ترضى. والأمين العام لاتحاد الشغل يلعب على الحبلين يفاوض رئيس الحكومة ويحصل منه على التنازلات، ثم يلتقي رئيس الجمهورية ليهدد به رئيس الحكومة بالإضراب المقرر الشهر القادم.
إنها لعبة السياسة الخالية من الحس الوطني، في أجلى مظاهرها، يمارسها اتحاد الشغل الذي عرف كيف يجعل من نفسه بعد الثورة سلطة فوق السلطات وحاكما على الحكومات، يهددها بالشارع فتضطر للخضوع والتجاوب مع مطالبه.
الغريب والمثير للفضول أن اتحاد الشغل عاش طيلة 23 عاما من حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي خاضعا للسلطة، لم يلجأ للإضراب العام مطلقا. وكان آخر إضراب عام نفذه الاتحاد في العام 1978، أي قبل 40 عاما كاملة.. لكنه تنمر بعد الثورة ونفذ إضرابين عامين في العام 2013 وحده، حتى أسقط حكومة الترويكا، وها هو اليوم يهدد من جديد بالإضرابات العامة، يجعل منها أداته لتحقيق ما يطلب من زيادات وامتيازات.
لم توجد حكومة من حكومات ما بعد الثورة ليس فيها وزراء موالين للاتحاد العام التونسي للشغل.. ولم توجد حكومة من حكومات ما بعد الثورة لم تعان الأمرين من الاتحاد العام التونسي للشغل.. إنها سياسة "الزعران" أو "البلاطجة" الذين يفعلون ما يشاؤون.. يمدون أيديهم للهبات، ويصفعون من يعطيهم إياها.
مقاومة الفساد أم الاشتراك فيه
ساهمت
الإضرابات العمالية التي تفاقمت بعد الثورة في طرد العديد من المستثمرين الأجانب، الذين رحل الكثير منهم إلى السوق المغربية القريبة، وتسببت الفوضى والاحتجاجات العشوائية في تراجع الإنتاج، ما تسبب في رفع الأسعار. كما إن ضعف الحكومة ساهم في ازدهار السوق الموازية، حتى بات نحو 54 في المائة من الاقتصاد التونسي يجري خارج القطاع المنظم، لا تستفيد منه الدولة في تحصيل الضرائب..
ومع الزيادات المتتالية في الرواتب وارتفاع أسعار البترول في السوق الدولية، وهروب جزء كبير من رأس المال نحو السوق الموازية، التي لا تدفع ضرائب، ولا تندرج ضمن الدورة الاقتصادية المنظمة، ومع التوريد العشوائي الذي يمارسه رجال أعمال مولوا حملة نداء تونس عام 2014، وهم اليوم يستردون ما دفعوا، ويحتمون بالحزب وببعض أجهزة الحكم.. باتت ميزانية الدولة تعاني من عجز شديد.
يطالب النقابيون الحكومة بعدم الضغط على الفقراء وتوفير الأموال من الأثرياء والفاسدين، الذين يتهربون من دفع ما عليهم من ضرائب لصالح الدولة.. ولكن الاتحاد ليس بعيدا عن الفساد أيضا.. والعارفون بالمنظمة النقابية يقولون إنها جزء من ماكينة الفساد، التي تعود لأيام المخلوع ابن علي، وعششت وفرخت أكثر بعد الثورة مستفيدة من ضعف الحكومات المتعاقبة.
العارفون بالساحة النقابية يقولون أيضا إن مؤسسات عديدة صغيرة ومتوسطة أفلست وأغلقت أبوابها؛ لأن
النقابات الناشطة فيها أسرفت في الإضرابات والاحتجاجات، حتى جعلت تلك المؤسسات تنهار.. الغريب في الأمر أن بعض تلك الإضرابات والاحتجاجات مدفوع الأجر من شركات منافسة، حتى تتمكن من أخذ كعكتها من السوق، ولن تتمكن من أخذ حصتها من السوق إلا بتفليس الشركات الموجودة، التي عرفت كيف تتعامل مع السوق، وتقدم بضاعة جيدة بأسعار مقبولة.
مؤسسات القطاع العام التابعة للدولة يشكو معظمها من خسائر مالية كبيرة، وتلك الخسائر ليست بعيدة عن نفوذ النقابيين، الذين بات الكثير منهم أكثر نفوذا في تلك الشركات من مديريها العامين.. نفوذ خلاصته تردي تلك الشركات في حمأة الإفلاس أو قريبا منه.. نقابيون أو قريبون منهم يبنون جدارا من آجر وإسمنت فوق سكة الحديد حتى لا تنقل القطارات الفسفاط نحو الموانئ.. وشركات نقل عبر الشاحنات على ملك نقابيين أو قريبين منهم تنوب القطارات في المهمة بأسعار مضاعفة.. إنه الفساد وطول اللسان.
نقابة شريكة في الحكم، تتقن فن الصياح والطلبات ورفع السيف مسلطا فوق رأس الحكومة.. وفاسدون يرفعون عاليا لواء محاربة الفساد، ومتسببون في غرق البلاد في الديون يحملون الحكومة مسؤولية الاقتراض.. وبعض الساسة، في الحكومة وخارجها، لا يفكرون إلا في مصالحهم الضيقة..
إنه الجانب البشع من ثورة توشك الثورة المضادة أن تغرقها في العفن.. ولا يحمي الثورة ويمدد في عمرها إلا انقسام قوى الثورة المضادة، وبعض بقايا أمل في غد أفضل.