الاعترافات الأخيرة للسعودية تفيد بأن خاشقجي قتل في السفارة بالفعل، وتم تقطيع جثته (خففوها وقالوا تجزئة)، وهم الآن في طور البحث عن مكان الجثة، أو بالأحرى عن صيغة للإعلان عن هذا المكان، وبذلك ينتقل الخطاب الرسمي السعودي من تكذيب الرواية التركية جملة وتفصيلا، ورفض مبدأ التحقيق الدولي والتهديد باتخاذ إجراءات صارمة، ووصف السعودية بأنها قوة اقتصادية كبيرة ولا تقبل أن يتم التعامل معها بهذه الطريقة؛ إلى قبول الرواية التركية والاعتراف كرها بصدقيتها منذ اليوم الأول، ومحاولة الحيلولة دون إجراءات التحقيق الدولي.. ومِن "لا نعلم عنه شيئا وغادر السفارة بعد عشرين دقيقة"، إلى "قتلوه وقاموا بتجزئة جثته"، بل والمطالبة بمحاكمة منفذي العملية، دون محاكمة صاحب الأمر المباشر في تنفيذها بطبيعة الحال...
اعتراف تحت الضغط
ما الذي أجبر السعودية على الاعتراف؟ في تصوري، الإدارة التركية الذكية للأزمة، القائمة بالأساس على المصالح التركية في إزاحة ابن سلمان، حليف الإمارات التي تعد الخصم الأول لأردوغان في المنطقة.. الأتراك حصلوا على تسجيلات قتل خاشقجي، وبنوا حملة سياسية وإعلامية احترافية، فيما تصرف السعوديون بارتباك شديد، حيث كان الأمر يتطلب السياسة أكثر من المال السياسي، وهو ما لم يتعودوه، فاضطروا إلى اعتراف مهين يحمل ما أعلنوه منه تفاصيل ما أخفوه ضمنا. فنحن لا نحتاج من يخبرنا بأن الفاعل فعلها بأمر ابن سلمان، إذ أن طبيعة الأمور في المملكة لا تسمح لأحدهم أن يهرش في رأسه، قبل استئذان سيده ومولاه ولي العهد، ولا تعني "نعم قتلناه"، هنا، إلا "نعم قتلناه بأمر ولي العهد" أو بأمر أبيه، أو بأمرهما معا.
نحن لا نحتاج من يخبرنا بأن الفاعل فعلها بأمر ابن سلمان، إذ أن طبيعة الأمور في المملكة لا تسمح لأحدهم أن يهرش في رأسه
والسؤال هو، هل تنجح تركيا في انتزاع الجزء المحذوف من الاعتراف قولا أو فعلا بانتزاع ولي العهد من فوق كرسيه، أم ترضخ بدورها للوساطات الأمريكية الساعية لحماية ابن سلمان، وتحصل على بعض المكاسب مقابل التغاضي عن القاتل الحقيقي وإعدام أدواته بدلا منه؟
كل الاحتمالات قائمة، فهذا عالم لا وجود للأخلاق أو القيمة فيه، وما أضافته أزمة خاشقجي، على وجه اليقين لا الاحتمال، هو أنه لا وجود للمنطق أيضا، وأن الأمور تسير وفق منطق جديد غير الذي تعودناه أو قرأنا عنه في الكتب التي لم تعد تحمل لقارئها ما هو قائم، بل ما ينبغي أن يكون
منطق!
في بداية الأزمة، رجحت أن يكون خاشقجي حيا، مخطوفا، سيظهر بعد قليل في الرياض ويعلن توبته عن فعل المعارضة لوكيل الله في الأرض، وطاعته لولي الأمر.. تناقشت في الأمر مع آخرين فرجحوا التصور نفسه، وحين انتشر خبر مقتله تسرب الخبر من مصادر تركية يصعب تكذيبها.. قال لي صديق: إن المصدر مهما بدا موثوقا إلا أن كلامه مناف لأي منطق، فحتى لو أرادوا قتله، فلماذا يقتلونه داخل سفارتهم ويعرضون أنفسهم لجريمة انتهاك كل الأعراف والقوانين الدولية؟ سائق تاكسي تركي يفرمه في حادث سير يحدث كل يوم، وينتهي الأمر! هذا هو المتعاون المحلي الأقرب للمنطق، والأقل في التكلفة. وحين بدأت السعودية في الاعتراف، وكانت إحدى الروايات تقول إن المقصود كان اقتياده إلى منزل آمن وإقناعه بالرجوع، وأن القتل تم عن طريق الخطأ أثناء مقاومة جمال لعملية خطفه التي سموها "احتواءه"، قلت إن "المنطق" أقرب لهذه الرواية من روايات التقطيع والإذابة الوحشية، ولا يحتاج الأمر سوى الكشف عن جثة خاشقجي رحمه الله، ليكون للمنطق أي نصيب في هذه الجريمة. إلا أن المنطق واصل التفتت على صخرة الاعترافات السعودية نفسها، ليصل بنا، رسميا، إلى تصور "العصابة" التي تأمر رجالها بالقتل والتقطيع، وفصل الرأس والإتيان بها تحت قدم الآمر، إلا كراهية وتشفيا، ولا تعدو الدولة وإمكاناتها هنا إلا غطاء على العملية بأسرها، والتي من المؤكد أنها تمت قبل ذلك عشرات المرات، وراح ضحيتها عشرات المعارضين، إن لم يكن المئات، دون أن يشعر بهم أحد.. ربما لأنهم لم يكونوا بنفس شهرة وتأثير خاشقجي، وربما لأن الجرائم تمت في دول أخرى غير تركيا، أو ظروف أخرى لا تضطر تركيا للتحقيق والتتبع بهذا الشكل الصارم.
كنا نقولها مجازا، علينا أن نعترف اليوم بكونها حقيقة، تحكمنا العصابات حرفيا، وتوشك أن تؤسس لمنطق سياسي ودولي جديد، هو منطق العصابات، بشكل واضح وطبيعي ورسمي، ما سيجعلنا نترحم على رجال دولة مجرمين؛ لأن جرائمهم كانت تحت سقف الدولة، لا تتجاوزه، حفاظا على بقائها واستمرارها، وأمان أصحابها الشخصي.
علينا أن نعترف اليوم بكونها حقيقة، تحكمنا العصابات حرفيا، وتوشك أن تؤسس لمنطق سياسي ودولي جديد، هو منطق العصابات، بشكل واضح وطبيعي ورسمي
"الإعلام المقلوب" في قضية خاشقجي
ابن سلمان في طريقه إلى "دار دار.. زنقة زنقة"!