كان الدكتور حسين مؤنس، الكاتب والمفكر وأستاذ التاريخ الإسلامي، رحمه الله، يصف الاستعمار الفرنسي بأنه أقذر استعمار عرفته الفترة الكولونيالية (الاستعمارية)، والتي شهدت ازدهارها بداية من القرن الـثامن عشر، وهي على أي حال لم تنته بالمعنى الاستغلالي والاستعماري، وإن تبدلت أدواتها ووسائلها.
سيحدثنا الأكاديميون والباحثون حديثا طويلا عن "ما بعد الكولونيالية"، وعلى رأسهم بالطبع المفكر العربي الكبير الراحل د. إدوارد سعيد، صاحب كتاب "الاستشراق"؛ الذي فضح فيه علاقات الهيمنة الغربية بخطابها الكولونيالي العنصري، ونقض المركزية الغربية من داخلها، بشدة وكشف تحيزاتها العرقية والثقافية والدينية وطبيعتها الإكراهية التي تكرس دونية الشرق وفوقية الغرب، كما بدا من كبار مفكريها.
لكن برنارد لويس يصف أعمال إدوارد سعيد بأنها غير منهجية، ويعتبر عمله الأشهر (الاستشراق) عملا بلا قيمة معرفية! على الرغم من أن جامعة كولومبيا، إحدى أشهر وأكبر جامعات أمريكا، تعتبر إدوارد سعيد وأعماله، والطريق الكبير الذي شق مساره في دراسات ما بعد الكولونيالية، من مفاخرها الأكاديمية الكبيرة. لكن بالطبع، برنارد لويس، والذي يكره ويحقد حتى على ملابسه التي يلبسها، يسوؤه كثيرا أن يكون إدوارد سعيد بهذه المكانة اللامعة. وسيكون علينا هنا أن نشير إلى أن إدوارد سعيد ذكر بوضوح تام أن الغرب حاول توظيف الكثير من المثقفين والسياسين العرب من أجل تكريس الارتباط والتبعية للغرب؛ وأفكاره ومصالحه وثقافته وقانونه.. وكل ما هو غرب في غرب.
أكتب ذلك، وأشير إلى القرار الذي صدق عليه مجلس الوزراء
التونسي في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي (
أحكام تتعلق بالتساوي في الميراث)، متجاوزا النص القرأني الصريح وإجماع جمهور العلماء في ما يتعلق بهذا الموضوع.
العلمانية الشرسة في تونس لها تاريخ طويل وعميق منذ اليوم الأول للاستقلال (1956)، والذي سبقته بالطبع ترتيبات وتخميرات فرنسية. وقد كان الحبيب بورقيبة هو اختيارهم الأوفق.. درس في فرنسا وتزوج أرملة ضابط فرنسي تكبره بـ12 عاما. وتبدت مظاهر العلمانية الشرسة بأنيابها القبيحة في كثير من قرارات بورقيبة، فأصدر قرارا جمهوريا بمنع صوم رمضان الذي يحول دون التقدم العلمى وتحقيق التنمية، كما قال، واقترح أن يقضي العامل الأيام التي أفطرها عندما يحال إلى التقاعد! وحاول منع التونسيين من أداء فريضة الحج، لما فيه من إهدار لمقادير مالية من العملات الصعبة، ودعاهم للتبرك بمقامات الأولياء والصالحين بدلا عن الحج.. ومنع المرأة من اختيار ما تريد من ملابس، وتدخل بقهر في تحديد أوصاف ملبسها، وأصدر قانونا (المنشور 108) يأمر بمنع ارتداء النساء غطاء الرأس؛ تحت دعوى أنه يمثل مظهرا من مظاهر الطائفية، وينافي روح العصر وسنة التطوير السليم. وظهر في التلفزيون في احتفال شعبي وهو ينزع أغطية الرأس عن عدد من السيدات والآنسات. ويقال انه في أول زيارة له إلى تركيا، وقف أمام قبر أتاتورك، وأخذ ينتحب باكيا كالأم التي قتل وحيدها في حجرها (ويهدئوا فيه ما يهدى كما يقول المصريون).. وبمساعدة فرنسية تامة، تعامل مع رفاقه القدامى في النضال بشراسة شديدة حين أصبحوا خصومة السياسيين، وأجهز على المؤسسة الزيتونية الإسلامية التي كانت سندا لخصمه الكبير صالح بن يوسف.. وحين استتبت له السلطة وجمعها في كلتا يديه، بدأت الدولة العميقة في ترسيخ قواعدها ومد جذورها عميقا في المجتمع التونسى.
وانقضى ما يقرب من ثلاثين عاما من حكم الرجل (1957-1987)؛ سالت خلالها مياه كثيرة ومات خلالها أناس كثيرون، كما ولد خلق أكثر، وشب واكتهل كثيرون، وولدت مزيد من الآراء والأفكار الجديدة وأصبحت "العميقة" في حيرة من أمرها، وفي شك من مصيرها.. لم يطل الوقت بها حتى جيء بصاحبنا (ابن علي) من وارسو!! ليصبح مديرا للأمن الوطني، ثم وزيرا فرئيسا للبلاد، في انقلاب يحفظ لـ"العميقة" مصالحها وهيبتها.
أحكم الرجل القبضة على الشعب، فهو بالأساس رجل أمن، فنفى وسجن وقتل وتجبر وقهر، وجرت عليه نفس القوانين (شارب السم للتجربة) وهرب "ابن علي". واضطرت "العميقة" للانزواء قليلا إلى أن يحين الحين. وكلنا نعلم ما حدث بعد ذلك على مدار ثماني سنوات، وقدر الحصافة والصدق والموثوقية التي تحرك بها الراشد "بحق وحقيق"، الشيخ راشد الغنوشي، وكيف نظرت اليه والى حركة النهضة الكثير من المؤسسات والمنظمات الدولية. وكانت عين الراشد لا تغيب عن التطلع بعيدا لما قد يحمله المستقبل من خطر على وطنه وشعبه؛ في ظروف إقليمية ودولية معقدة وخبيثة. وبعد أن أعيت الرجل كل الوسائل، لم يتبق له إلا أن يعلن صراحة أن رئيس الجمهورية (السبسي) أصبح عنوانا للثورة المضادة، وإن شئت الدقة قل "الفرنسة المضادة". وما كانت المسارعة إلى إصدار قانون الميراث، والذي لم يكن أبدا هما شعبيا، إلا وجها قبيحا لتلك الفرنسة، وما كانت المسارعة إلى ذلك الاتهام الكذوب بوجود تنظيم سري مسلح وغرفة سوداء لحركة النهضة؛ إلا وجها أكثر قبحا وخسة ونذالة لتلك الفرنسة.
ونعود لنتذكر جملة الدكتور حسين مؤنس؛ أن الاستعمار الفرنسى هو أقذر استعمار عرفته شعوب العالم. لكن هذا البلد العربي الحبيب الذي أنجب لنا علماء ومصلحين كبارا، أمثال ابن خلدون وخير الدين التونسي والطاهر بن عاشور، وـحد ـشهر شيوخ الجامع الأزهر (الخضر حسين)، وراشد الغنوشي.. هذا البلد الذي كان أول من قدم الفجر الصادق للشعوب المغلوبة، بثورته التي خرجت من قلب الإذعان واليأس، ستحمل الأيام على كفيه ماء الحرية والكرامة والخلاص زلالا صافيا.. إنه الصبح القريب.