تعددت الجهات التي طالبت
التونسيين بالنزول إلى الشارع للتظاهر ضد السلطة، معتمدة في ذلك على
الميزانية التي تقدمت بها الحكومة وحصلت على أغلبية ضعيفة في البرلمان، والتي رأت فيها المعارضة تمييزا بين المواطنين، وانحيازا للوبيات وأصحاب المصالح الكبرى. وقد استغلت المعارضة هذا الأمر لترفع من درجات الاحتقان والضغط على الائتلاف الحاكم، واتهمته بالعجز وبيع تونس لمراكز النفوذ المالي في العالم.
ولم تقتصر الدعوة إلى الاحتجاج على الجبهة الشعبية ذات التوجه اليساري والقومي، وإنما اتسعت رقعة الغاضبين لتشمل أيضا حزب نداء تونس؛ الذي كان في الأصل حزبا حاكما لكنه انتقل إلى المعارضة منذ أن احتد الخلاف بينه وبين يوسف الشاهد. كما توجه الأمين العام لحركة الشعب ذات الخلفية الناصرية بنداء إلى التونسيين، أكد فيه "نحن كمعارضة عجزنا عن الدفاع عنكم.. دافعوا عن أنفسكم".
من جهة أخرى، لا يزال الشارع النقابي في حالة غليان بسب استمرار الخلاف مع الحكومة حول العديد من المطالب الاجتماعية، وفي مقدمتها الزيادة في الأجور. لقد
تحرك قطاع التعليم الثانوي والأساسي، ونزل بثقله إلى الشارع في مختلف جهات البلاد، رافعا شعارات ضد وزير التعليم ورئيس الحكومة. كما تتهيأ قيادة الاتحاد العمالي لتنظيم إضراب الوظيفة العمومية يوم 17 من الشهر الجاري.
وفي خط موازٍ، تحرك المحامون والأطباء والمحاسبون وحاصروا قصر الحكومة، قبل أن يتوجهوا نحو شارع الحبيب بورقيبة للتعبير عن رفضهم للمس من "السر المهني"، والذي تعرضت له ميزانية 2019 ودعت مهنا عديدة إلى التخلي عنه.
أجواء محتقنة لا تبشر بخير، خاصة وأنها تتزامن مع قرب شهر كانون الثاني/ يناير الذي يعتبر شهر الاحتجاجات في تونس منذ سنوات طويلة. وفي هذا الشهر، ينفذ اتحاد الشغل إضرابا عاما لمدة يومين، في حال عدم استجابة الحكومة لمطالب العمال. كما تتهيأ بشكل مواز؛ حركة مجهولة أطلقت على نفسها "
أصحاب السترات الحمراء"، تقليدا لحاملي السترات الصفراء في فرنسا، وذلك للاحتجاج "السلمي" في شوارع تونس.
تأتي هذه الأحداث في مناخ ملغوم وغير واضح المعالم. فالعلاقة بين رأسي السلطة التنفيذية في حالة برود سياسي، بعد الخلاف الذي أصبح معلوما من قبل الجميع بين
السبسي والشاهد، كما تعهدت حركة نداء تونس بالعمل على إسقاط الحكومة. واحتد الصراع من جهة أخرى بين حركة
النهضة وخصومها يسارا ويمينا، بعد أن تحولت مسألة "
الجهاز السري" إلى ورقة ضغط؛ جعلت البعض يدعو صراحة إلى حل حزب النهضة والعمل على محاكمة جزء من قياداته، وفي المقدمة رئيس الحركة
راشد الغنوشي.
لقد أصبح المشهد قاتما ومخيفا، إذ كتب الناشط السياسي صحبي بن فرج، القريب من رئيس الحكومة تدوينة، في غاية من الخطورة، حيث وصف شهر كانون الثاني/ يناير بـ"شهر الفوضى والتحركات الغامضة". وبناء على مصادر وصفها بالموثوقة، أكد أنه قد "تمّت البرمجة بحيث تمتد الشرارة إلى المدن الكبرى، وتسري إلى الشرائح الاجتماعية الوسطى المتضررة من الوضع الاقتصادي الخانق. كل المعطيات على الأرض تشير إلى قرب التحرك: التسخين الإعلامي، والشحن السياسي، وتوالي الأزمات المفتعلة".
هكذا، يجد الائتلاف الحاكم نفسه محاصرا بشكل صريح ومؤكد. فهو إن استجاب لمختلف هذه المطالب المختلفة (والمشروعة في الكثير منها)، والصادرة عن جهات مختلفة، فإنه سينسف السياسات التي اختارها وراهن عليها، والتزم بتنفيذها مع صندوق النقد الدولي. أما إذا تمسك هذا الائتلاف بما ورد حرفيا في هذه الميزانية المرتبكة، فإن الحكومة قد تعصف بها الاضطرابات، وقد تعجز عن الصمود طويلا بسبب ما يمكن أن ينجر عن حركة الشارع غر المنضبطة وضغوط النقابات التي لا يستهان بحجمها، إلى جانب دخول "المغامرين" والمرتبطين بأجندات خارجية على الخط.
هذا خلط بين أطراف معلومة تتحرك في العلن
وأخرى مجهولة تعمل في الظلام، وخلط أيضا بين مطالب مشروعة لنقابات وأحزاب لها توجهاتها الفكرية والسياسية المخاصمة لسياسات الائتلاف الحاكم؛ وبين ما يسعى إليه البعض من خلال نشر الفوضى خدمة
لمصالح قوى داخلية وأجنبية لا تريد الاستقرار لتونس، وترغب بقوة في الإجهاز على مسار الانتقال الديمقراطي وتنصيب دكتاتورية جديدة تنسف ما تحقق من حريات، وذلك لإقناع الشعوب العربية بأن
الديمقراطية الناشئة في تونس ليست سوى مرض معدٍ وخبيث؛ لن يساعد على النهوض بأوضاعهم، إذ لا تصلح إلا سلطة قوية تحكم بالعصا، وتوهم الناس بكونها الأعلم بمصالحم، وما عليهم إلا السمع والطاعة.
النزول إلى الشارع حق دستوري وممارسة ديمقراطية لا غبار عليها، لكن ما يُخشى هو أن تفتك المبادرة من أصحاب المصلحة في الاحتجاج، وتنحرف الأوضاع نحو الفوضى، حييث توجد وراء الحجاب ذئاب تنتظر فرص الانقضاض على هذه التجربة الهشة والضعيفة.