لم يأخذ موضوع تحالفات الإسلاميين السياسية حظّه من البحث والدراسة، وذلك لأسباب عديدة منها طول أمد العزلة السياسية التي عاشها الإسلاميون بسبب تحالفات النظم الحاكمة مع بعض القوى السياسية، واستثناء الإسلاميين من هذه التحالفات، بناء على قواسم أيدولوجية مشتركة بين الأنظمة ونلك التيارات.
لكن، مع ربيع الشعوب العربية، ومع تصدر الحركات الإسلامية للعمليات الإنتخابية في أكثر من قطر عربي، نسج الإسلاميون تحالفات مختلفة مع عدد من القوى السياسية داخل مربع الحكم، وترتب عن هذه التحالفات صياغة واقع سياسي موضوعي مختلف، ما جعل هذا الموضوع يستدعي تأطيرا نظريا على قاعدة رصد تحليلي لواقع هذه التحالفات: دواعيها وأسسها وصيغها وتوافقاتها وتوتراتها وصيغ تدبير الخلاف داخلها، وأدوارها ووظائفها، وتجاربها وحصيلتها بما في ذلك نجاحاتها وإخفاقاتها.
يشارك في هذا الملف الأول من نوعه في وسائل الإعلام العربية نخبة من السياسيين والمفكرين والإعلاميين العرب، بتقارير وآراء تقييمية لنهج الحركات الإسلامية على المستوى السياسي، ولأدائها في الحكم كما في المعارضة.
اليوم يواصل الكاتب والباحث الفلسطيني أسامة الأشقر، قراءة نقدية لتجربة الإسلام السياسي الفلسطيني ممثلا في حركة المقاومة الإسلامية "حماس".
"حماس" ومنظمة التحرير ومأزق أوسلو.. التوافق الصعب
توجد عشرات التجارب الإسلامية الفلسطينية التي لا يسعنا استعراضها في هذه المقالة المضغوطة؛ ولكن التحالف السياسي وفلسفته ورؤاه خضعت لاختبار وجوديّ من خلال قرار قيادة "حماس" المشاركة في العملية السياسية تحت سقف أوسلو متعللة بوجوب تعطيل مشروعات تصفية القضية الفلسطينية من داخل المؤسسات التي جرى اختراقها من قِبل أنصار هذا المشروع، والقناعة بعدم إمكانية تجاوز المؤسسات الرسمية الفلسطينية المسنودة إقليمياً ودولياً إذا أرادت "حماس" قيادة مشروع الشعب الفلسطيني نحو التحرير.
كان هذا القرار واحداً من المحطات الصعبة في تاريخ "حماس" نظراً لاستصحابه الكثير من المواقف التقليدية للتيار الإسلامي المتأثر بالمد السلفي في نظرته للديمقراطية، إضافة إلى انعدام الثقة بين "حماس" وقيادة منظمة التحرير؛ ومع أن "حماس" تجاوزت هذه المحطة بخسائر قليلة إلا أنها ركّبت عليها قيوداً تقتضي منها أن تكون في صفوف المعارضة السياسية داخل المجلس التشريعي الفلسطيني .
انتخابات 2006 والمنعطف الجديد
ولكن الصدمة التي واجهت "حماس" كانت في حصولها على أغلبية مقاعد المجلس التشريعي مطلع 2006، وهذا يعني أنها ستشكّل الحكومة وحدها أو بالتحالف مع قوى سياسية صغيرة حصلت على مقاعد قليلة جداً أو أن تشكل حكومة وحدة وطنية؛ وكانت صدمة حركة "فتح" أكبر فقد قرّرت حينها أن تقوم بإخراج "حماس" سياسياً من البوابة التي دخلت منها إلى الشرعية السياسية، وأصرت أنها لن تشارك في حكومة "حماس"، وأما الفصائل الأخرى فقد رأت نفسها خارج اللعبة ورفضت أن ترهن موقفها لـ "حماس" وفضّلت التفرّج بعيداً؛ وهذا ما جعل "حماس" أمام مأزقين: مأزق داخلي يستدعي إعادة النظر في قرار القيادة بأن تكون في المعارضة وإصدار قرار يسمح لها بالدخول في الحكومة، ومأزق آخر في كيفية توليد حكومة ستتعامل مع إرث تطبيعي ووظيفة أمنية إسرائيلية للسلطة؛ فاضطرت "حماس" لتعديل قرارها السابق وحَمَلت الحكومةَ وحدها وقررت التحدي بإعلان صيغة تقول إنها كما أبدعت في المقاومة فإنها ستبدع في الجمع بين السلطة والمقاومة؛ وهو الأمر الذي لم تظهر نتيجته النهائية نظراً لرفض الآخرين أن يكونوا حلفاء لها، إذ عدّوا هذه السياسة مغامرة قد لا يكتب لها النجاح؛ ولم تنجح "حماس" في تقديم مرافعة سياسية مقنعة في الجمع بين مقتضيات المقاومة ومقتضيات السلطة تحت الاحتلال، وخاضت تجارب مريرة وحدها نجحت في مربعات وخسرت في أخرى لأسباب موضوعية أو ذاتية.
كانت "حماس" تشعر بالنزيف والخذلان من معظم أصدقائها الذين تركوها، الذين كانوا في الوقت نفسه يطلبون المغنم من السلطة فيها دون أن يدفعوا مغرماً تورطت فيه حماس؛ وقد كانت حماس حينها مستعدة للوصول إلى أخف صيغة ممكنة لبناء تحالف سياسي على كلمات محدودات حتى لو كان التحالف مع حركة "فتح" التي تتناقض تماماً مع مشروع سلطتها، ومع ذلك فلم تجد "حماس" أي تجاوب من أي جهة .
الحسم العسكري وتحديات العزلة
وعندما جرى الحسم العسكري في قطاع غزة عام 2007 وقفت "حماس" وحدها ثانية، إذ رفضت القوى المقاومة والقوى الأهلية أن تكون جزءاً من إدارة شؤون قطاع غزة، وحمّلت "حماس" مسؤولية قراراتها، وثقل الحِمل أكثر وأكثر على "حماس" التي تكلّفت مسؤولية نحو مليونين من السكان في ظل حصار مطبق، وبقي العمل السياسي بين الأصدقاء مقصوراً على حوار الطاولات دون نزول على الأرض.
ومع ذلك فقد تعززت القناعة لدى "حماس" بضرورة الإنفتاح أكثر بعد شعورها بخطورة العزلة، وعملت أكثر على تبديد المخاوف من بعض الإدعاءات حول أصالة موقفها الإيجابي من الإنفتاح والديمقراطية والتكامل والتنسيق السياسي العالي وصولاً للتحالف، فأعلنت في حزيران/يونيو عام 2017 رؤيتها في الوثيقة السياسية التي نصت على أن "حماس" تؤمن وتتمسك بإدارة علاقاتها الفلسطينية على قاعدة التعددية والخيار الديمقراطي والشراكة الوطنية وقبول الآخر واعتماد الحوار، بما يعزّز وحدة الصف والعمل المشترك، من أجل تحقيق الأهداف الوطنية وتطلّعات الشعب الفلسطيني.
نخلص من هذه المقاربة إلى خلاصات مركزة:
إن فكرة التحالف السياسي لدى "حماس" بدأت مع نشأتها، وأنها كانت متأثرةً بالخلفيات الفكرية لها على قاعدة التصنيف إلى إسلامي وعلماني.
بدأ التمايز بين المستوى السياسي والمستوى الفكري لدى "حماس" في أمر التحالف ببداية تفكيرها في مشروع قيادة الشعب الفلسطيني على قاعدة التحرير الشامل واستيعاب الاختلافات التي لا تمس القضية الوطنية؛ وخاضت تجارب عديدة على صعيد البلديات والنقابات الطلابية لترجمة ذلك.
أصبح التحالف السياسي لدى "حماس" بعد دخولها في جسم السلطة الفلسطينية خاضعاً لفقه المصالح وفلسفة التكتيك ولم يعد متصلاً بمستوى الهوية الفكرية، وتبددت التخوفات لدى حماس ذاتها من العمل السياسي والتحالفات التكتيكية بعد إدراكها أن العمل السياسي خاضع لعناصر القوة وشبكة العلاقات والفاعلية وقوة الحضور على الأرض وليس فيه امتحانات ابتدائية مفروضة تلزمها بالتخلي عن هويتها، وأن السياسة تتمتع بمرونة كبيرة حتى وهي ترفع سقفها وتعلن تشددها.
اليوم تبدو "حماس" أكثر قناعة ببناء التحالفات وتبدو قادرة على تقديم نموذج جديد
*أسامة الأشقر: كاتب وباحث فلسطيني
اقرأ أيضا: "حماس".. النشأة والهوية والمسار في مواجهة الاحتلال (1من2)
"حماس" تعاملت مع الاحتلال بقدرية ومع غزة كجزيرة معزولة
الإسلام السياسي الفلسطيني.. الاحتلال إذ يفرض الأولويات 2/2
إسلاميو فلسطين نجحوا بالمقاومة وفشلوا بالتحالف السياسي 1من2