كنت قد قررت الكتابة عنه عقب سلسلة مقالاتي عن الشيخ كشك، وبذات الوصف "زعابيب أمشير"، ولم أكن أعلم أن وفاته تمت في هذا الشهر "أمشير"، فقد وافته المنية في 23 شباط/ فبراير 2014.
وشهر أمشير هو الشهر السادس في التقويم المصري، ويبدأ في الفترة من 8 شباط/ فبراير، إلى 9 آذار/ مارس!
عُرف "أمشير" بزعابيبه ورياحه المحملة بالأتربة، وتقول الأسطورة إن عنزاً خاطبت شهر "طوبة" شديد البرودة، بعد انتهائه، بأنه لم يبل لها عرقوباً، فدخلت "طوبة" معها في تحدٍ بأنها ستقترض عشرة أيام من "أمشير"، تقلبه خلالها على الجانبين وتريه فيها "النجوم في عز الظهر"، من هول العذاب، وما يطلق عليه "الزعابيب"!
كان الشيخ يوسف البدري هكذا يثور عاصفاً، حتى يتملكك الإحساس، بأنك تشاهد مسلسلاً دينياً، حيث المواجهة مع كفار قريش، وحيث الصوت المرتفع الاستعراضي
وقد كان
الشيخ يوسف البدري هكذا يثور عاصفاً، حتى يتملكك الإحساس، بأنك تشاهد مسلسلاً دينياً، حيث المواجهة مع كفار قريش، وحيث الصوت المرتفع الاستعراضي. وكان الشيخ يميل للاستعراض في كل شيء.. مشيته، ولباسه، وحديثه. ولأنه تخرج في كلية دار العلوم، وليس أزهرياً، فإنه لم يكن يرتدي الزي
الأزهري المعروف، فقد كان يرتدي جلبابا (أبيض في العادة مع بعض الاستثناءات) ويضع فوق رأسه عمامة بيضاء، بعزبة أو بدونها. والعزبة معروفة من لباس شيوخ الجمعية الشرعية بالضرورة. ويقال إنه كان أحد خطباء الجمعية، وإن كان سلفي الفكر والتوجه، وهي جمعية جامعة، فتجد فيها السلفي، والصوفي، والإخواني.. وقد كانت تضم الشيخ "أحمد كريمة"، بأفكاره الأقرب للتشيع، والدكتور محمد الصغير بميوله المعارضة القريبة من الإسلام السياسي، مع وزير الأوقاف الحالي "مختار جمعة"، وهو رجل المباحث الأول في الجمعية، وإن كان يجمع بينهم أنهم تخرجوا في الأزهر، وليس كل وعاظ الجمعية الشرعية من خريجي الأزهر الشريف!
وكيل بجدول
ولا يُحسب لباس الشيخ يوسف البدري على الزي الرسمي المعتمد حكومياً، لكنه مع هذا كان يذهب به إلى عمله في مدرسة حكومية عامة، وليست أزهرية، وكان لا يمل من الإعلان عن أنه لا يزال حتى الآن "وكيل مدرسة بجدول".. يقولها للتأكيد على معاناته، دون أن يوضح إن كان هذا مرتبطا باضطهاد وقع عليه، أم أنها الترقية الطبيعية التي يرى أنها لا تتمشى مع نجوميته ومكانته الدينية، كواحد من الخطباء النجوم. لكن على أية حال، فإن هذا الزي يعطيه فرصة أكبر في الاستعراض، فهو يتكلم ولا يتوقف عن جذب عباءته من أعلى اليمين ومن أعلى اليسار لضبطها.. نسيت أن أقول أنه كان يضع عباءة دائماً عليه!
كان الشيخ البدري ينتمي بأفكاره للسلفية التقليدية (المنغفلة)، فيحرم تعدد الأحزاب.. فالإسلام لا يعرف سوى حزبين فقط، حزب له وجود على الأرض، والآخر وجوده افتراضي ولا يمكن السماح له بالظهور في دولة الاسلام، وهما حزب الله، وحزب الشيطان. وقد روي عنه أنه كان يحرم المشروبات الغازية، كما يحرم استخدم الصابون ذي الرائحة. وقد أقلع عن بعض هذه الأفكار، فانضم لحزب الأحرار، ودخل البرلمان، وشاهدته يشرب زجاجة بيبسي، وإن ظل متمسكا بالأفكار
السلفية الأخرى، فلم يأبه بأن صوته نشازاً، وهو يصدم الرأي العام المتعاطف مع سليمان خاطر، الجندي المصري الذي قتل عدداً من الإسرائيليين من مكان خدمته على الحدود في سيناء، وقال إن هناك فرقا بين القتل والقتال، فالثاني محمود ومقبول، والأول مرفوض ومحرم. ولم يدهشني لهذا أنه بعد الثورة استمر يقول رأيه فيها؛ بأن الثورة والخروج على الحاكم حرام شرعاً!
كان الشيخ البدري ينتمي بأفكاره للسلفية التقليدية (المنغفلة)، فيحرم تعدد الأحزاب.. فالإسلام لا يعرف سوى حزبين فقط، حزب له وجود على الأرض، والآخر وجوده افتراضي ولا يمكن السماح له بالظهور
تجديد الخطاب الديني
وإذا كانت حصيلتي مع الشيخ كشك مثلاً حواراً يتيماً ولقاءً واحداً، وحصيلة مقابلاتي الصحفية مع الشيخ صلاح أبو إسماعيل لقاء واحدا، مع أن جلساتنا كانت تمتد لساعات طويلة، لا يمكنني الآن حصر عدد الحوارات الصحفية التي أجريتها مع الشيخ يوسف البدري، وكان آخرها في سنة 2004.. كانت هناك دعوة لتجديد الخطاب الديني، وقال هو إن من يدعون لتجديده هم من المعتزلة، والمعتزلة ليسوا من الاسلام. وقد بدأت الدعوة مع الشيخ محمد عبده، والذي يراه هو من المعتزلة، الذين أطلقوا هذه الدعوة بهدف ضرب الإسلام من داخله. وهبط الحوار إلى "عمرو خالد"، وكان قد أعلن أنه سيسافر إلى لندن لدراسة الإسلام، وقال يوسف البدري: يا خيبة الأمل راكبة جمل، أن يكون "عمرو خالد" في مصر بلد الأزهر، ثم يسافر لدراسة الإسلام في لندن!
كان الحوار معه تحدث فيه بعض "القفشات المضحكة"، لا سيما وأنه كان يحرص على الحديث بشكل خطابي واستعراضي. ولأن الحوارات كانت تتم ليلاً، فقد كان يتملكني إحساس بأن كل ضاحية المعادي قد وصلها صوته، فهل كان يريد أن يعرف الجيران، أن في بيته صحفيا يحاوره؟ أم كان اللجوء إلى الخطابة هو للتعويض عن حرمانه من صعود المنابر والخطابة في المساجد؟ لقد كانت لي حوارات معه بينما كان خطيباً وبرلمانيا، لكنه لم يتغير أبداً!
كان صوته يشق سكون الليل، في هذه الضاحية الهادئة التي كان يقيم فيها، وكان عندما يستطيب أمراً ويستملحه ويتماشى مع الحالة الخطابية؛ يمسك فيه، فيعيد فيه ويزيد، ويلحنه كموسيقار يلحن نصا.
في ليلة تجديد الخطاب هذا، ذكر أن الدعوة لتجديد الخطاب الديني بدأت مع عطاء الله السكندري، وردد مقولة الحسن البصري: "اعتزلنا واصل"، ثم عاد وزاد: "اعتزلنا واصل"، وكأنه صار ملبوساً.. فقد كان متأثراً بحالة واصل بن عطاء، وربما كان تعاطفه مع شيخه الحسن البصري وحزن لحزنه. ولم أعرف إذا كان قد قال هذه العبارة من باب الخبر أو من باب التأثر والحزن، لكن الشيخ "البدري" كان حزيناً، فصرخ للمرة الثالثة، والرابعة، والعاشرة: "اعتزلنا واصل".. "اعتزلنا واصل"، لأجدني أصرخ في وجهه صراخا بصراخ: ماذا يمكننا أن نفعل للحسن البصري في هذه الليلة الليلاء؟ ليس طبيعيا هذا الأمر، نريد أن نتقدم بالحوار خطوة للأمام، لا يمكن أن نظل الليل كله ننادي على واصل!
المصريون هياف
قبل أن ننطلق إلى مقطع آخر، جاء في سياقه قوله إن الفقه الإسلامي احتوى على كل شيء، وبالتالي فالأمر لا يحتاج إلى تجديد. وذكر أن الفقهاء ليسوا أربعة فقط، فقد كان هناك الليث بن سعد، الذي قيل عنه: الليث أفقه من مالك، وقال: لكن المصريين ضيعوا الليث بن سعد!
ذكر أن الفقهاء ليسوا أربعة فقط، فقد كان هناك الليث بن سعد، الذي قيل عنه: الليث أفقه من مالك، وقال: لكن المصريين ضيعوا الليث بن سعد!
وقد ارتكبت في هذه الليلة خطأ عمري، عندما سألته: كيف أضاعوه؟ فكأني ضغطت على جرح غائر عنده، فظل يهتف: المصريون ضيعوا الليث بن سعد.. المصريون هياف ضيعوا فقيههم.. المصريون ضيعوا الليث.. أضاعوه.. لم يحفظوا علمه. ثم يعيد النغمة من جديد، وكان علي أن أنزله من ملكوته وأسحبه من زمن الليث بن سعد، فأحداً منا لم يكن من الذين ضيعوا الليث:
- "هل تراني أنا من ضيع الليث بن سعد.. ماذا أفعل أنا في هذه الليلة السوداء؟.. ضاع الليث بن سعد وضيعه المصريون لأنهم هياف.. ماذا في يدي الآن أن أفعل لليث بن سعد"؟!
كانت ردودي عصبية وجادة، فقد كان صراخه يدفع للتوتر، لكني عندما أتذكر هذا الآن يتبدى أمامي كما لو كان مقطعاً من حوار ساخر وفكاهي!
ولأنه كانت تستهويه العبارات التاريخية، فقد كان عندما يراني يبتهل "اللهم انصر الاسلام بسليم عزوز". وفي اللقاء الأخير، الذي نعينا فيه الليث بن سعد، حتى كادت روحه أن تحل وتحضر لتقول له: "هوّن عليك"، همس في أذني، ولم يكن هناك أحد معنا في مكتبته.. كان البيت يبدو خاليا من سكانه، فلم نسمع حتى همسا، ومع ذلك همس:
- "أراك تغيرت كثيراً"؟..
- سألته كيف تغيرت؟..
قال: في اتجاهك للإسلام.. عليك مسحة إسلامية واضحة الآن.
لم يكن ساعتها هو السلفي، حافظ النصوص بدون أي قدرة أو رغبة على قراءتها بعيداً عن السياق التي قيلت فيه، بل كان أقرب إلى شيخ طريقة، في حوار مع مريده يوشك أن ينشد له: "باب القبول انفتح.. قدم طلبا يا بني.. وأنت عليك الأساس.. وأنا عليَّ أبني"!
يكن ساعتها هو السلفي، حافظ النصوص بدون أي قدرة أو رغبة على قراءتها بعيداً عن السياق التي قيلت فيه، بل كان أقرب إلى شيخ طريقة
رددت عليه ضجراً:
- لا مسحة ولا شيء!
فقال هامساً أيضاً: اعترف بأنك تغيرت!
العشم
كان الرجل في "حالة عشم"، وربما وجد نفسه وقد أكرمني بشكل زائد، وبمشروبين متتالين، فهل تذكر حالاً نصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم: "ولا يأكل طعامك إلا تقي"، ويريد أن يبرئ ذمته؟ لكن لم تكن هذه المرة الأولى التي يبالغ في إكرامنا، قبل سنوات، وعندما كان وكيلا لحزب الأحرار، كنا عنده في بيته، ولا أتذكر سبباً لهذه الزيارة، التي جمعتني به مع أربعة من الزملاء، فلم يكن مريحا في جلسته كالشيخ صلاح أبو إسماعيل (الذي كانت القعدة تحلى عنده)، ولم يكن متداخلاً في الأمور الإدارية في الحزب!
امتد اللقاء لساعات طويلة، وكلما هممنا بالانصراف أمسك فينا، وأحدنا كان من الواضح أن الجوع بلغ منه مبلغه، فسأل بخشوع وتسول إن كان بإمكان أن يطلب ساندويتش واحدا جبنة بالعدد؟!.. فجيء له بسندوتش واحد جبنة بالعدد!
وعاد يطلبني بعدها ليستشيرني في بعض الأمور، فلماذا لم أعد أزوره في البيت؟ وكانت فرصة لأن أتجرأ على القول بأن زيارته إذا طالت مغامرة؛ لأنه ليس مضيافاً. وقال: تعالَ وستجد ما يسرك، لكنه في الزيارة التالية بالغ في المشروبات فقط. كان يشكو دائما أن أحواله المالية ليست على ما يرام، حتى وهو نائب في البرلمان، وهو ما كان يضعه في مواقف ليست جيدة، سواء في الحزب، أو في الاتفاقات المالية مع من يديرون معه اللقاءات التلفزيونية!
وجدته ملحاً على طلب الاعتراف بأني تغيرت، وأنه يلاحظ مسحة إسلامية
لكنه، وباعتباره ماكينة لحفظ النصوص، ربما كان يميز بين الطعام والمشروبات، فالأمر النبوي خاص بالأكل وليس بالشراب: فلا يأكل طعامك... والمشروبات لا تؤكل، فهل اجتهد الآن في فهم النص؟!
لقد وجدته ملحاً على طلب الاعتراف بأني تغيرت، وأنه يلاحظ مسحة إسلامية عليّ، فأجبته في الأخير:
- نعم تغيرت!
وبدت عليه الراحة:
- لقد استجاب الله لدعائي، "اللهم أعز الاسلام بسليم عزوز"!
اخلع نعليك
ربما جاء هذا التصور لديه من أول مرة زرته فيها في بيته. كنا ثلاثة من الزملاء، وقد استقبلنا على باب منزله أمر لكل واحد فينا، وبشكل جاد يمنع من الحوار في ما لا يجوز الحوار حوله، أو الشفاعة فيه:
- اخلع نعليك!
وقلت له ساخراً أو محاولاً السخرية وفتح باب للحوار:
- هذا باعتبارنا سندخل الوادي المقدس طوى!
ولم يعقب، ولم تتغير ملامح وجهه الصارمة، فخلعنا نعالنا ودخلنا. فهذا مشهد مررت به عند زيارتي للشيخ عبد الله السماوي، لإجراء حوار معه، لكن السماوي كان مهذباً ورقيقا، يطلب هذا في وداعة وابتسام!
كنا وقوفا ولم نجلس بعد، وعندما طلبت منه الإذن بدخول الحمام، ولم أكد أبدأ في تلبية نداء الطبيعة، حتى فوجئت بالباب يفتح بقوة، ولم أكن في وضع يؤهلني للقيام، وليس لبابه مفتاح لغلقه من الداخل، فكان في كل مرة يدفع فيها الباب، كنت أدفعه من الداخل، وفي كل مرة يهتف:
- سليم يا ولدي بيتي طاهر فلا تنجسه!
- سليم يا ابني بيتي طاهر فلا تنجسه!
- يا أستاذ سليم بيتي طاهر فلا تنجسه!
وكنت في كل مرة أسأل: ماذا هناك؟ فلا يتوقف الرجاء بأن بيته طاهر فلا أنجسه!
وخرجت من المحنة، لأجد الشيخ هائجاً، بينما زميليّ في غيوبة ضحك، بعد أن فاقا منها قال لي أحدهم (أحمد علي حسن)، الكاتب الاسلامي المعروف رحمه الله، إنه قال للشيخ انتبه:
- سليم عزوز علماني!
كان هذا في وقت مبكر، ولم تكن الكلمة رائجة، فسأله الشيخ:
-
ماذا يعني علماني؟!
قال له:
- العلمانيون يقضون حاجتهم وقوفا.
فكان ما كان.. فهل ظل هذا التصور في ذهنه كل هذه السنوات، فكان دعاؤه، وكانت سعادته بأني تغيرت وظهرت مسحة إسلامية عليّ، دون أن أعرف؟ ما هى ملامح هذه المسحة، لا سيما وأنني كنت ممنوعاً من الكتابة وقتها في مصر، فلا يمكن أن يقال إن المسحة لاحظها في كتاباتي، وقد كنت أكتب خارج مصر: في "القدس العربي"، و"الراية" القطرية، ولم يكن يطالع ما أكتب!
لا بأس، فقد رأى الشيخ ما لم أره، يرحمه الله.. ربما كان مكشوفا عنه الحجاب!