عندما تعرضت صحيفة "شارلي إيبدو" الفرنسية لهجوم إرهابي، فإن قادة العالم كله نفروا خماصاً وبطاناً، وزحفوا على بطونهم إلى باريس، للمشاركة في مظاهرة "كلنا شارلي إيبدو"، وكان في طليعة المتظاهرين، قادة العالم الإسلامي، يسبقهم التأثر، محمود عباس "أبو مازن" الذي أخذ الرئيس الفرنسي بالأحضان؛ يوشك أن يهجش بالبكاء، وكأن "ضحايا الحادث" معروفون له بشكل شخصي!
وعندما حدث
هجوم المسجدين في نيوزلندا، والذي راح ضحيته حوالي خمسين مصليا، فلا يمكن أن ننتظر معاملة بالمثل، لا من قبل القادة العرب والمسلمين الذين كانوا في حالة تأثر بالغ، ولا من قبل القادة الغربيين الذين شاركوا في تشييع جنازة ضحايا حادث "شارلي إيبدو" في مظاهرة "كلنا شارلي إيبدو"!
فلأن الجناة في الحادث الأول اثنان من
المسلمين، ولأن الضحايا من "السلالة النقية"، فقد كانت مناسبة عظيمة لاستغلال الحادث ضد الإسلام والمسلمين، وكانت فرصة عظيمة لواحد مثل السيسي يتقرب للغرب بالنوافل، فيواصل مقطوعته الموسيقية، عن
الإرهاب الذي يلصقه بالإسلام، لدرجة اتهامه عموم المسلمين بالإرهاب، فيقول في خطاب له، ليس معقولا أن 1.6 مليار مسلم يقتلون العالم كله من أجل أن يعيشوا هم!
الخطاب العنصري للسيسي
وهو هنا ينظر للمسلمين جميعاً على أنهم إرهابيون، مستغلاً حوادث إرهاب يقوم بها مسلمون في سياق التوظيف لخدمة أهدافه الاستمرار في الحكم رغم إرادة المصريين، وبحماية غربية يطربها هذا الخطاب العنصري ضد الإسلام والمسلمين، حتى وإن كان صاحبه من يقول إنه صلى ثلاثين عاماً في المسجد جماعة.. الفرض بفرضه!
لقد تمدد السيسي بالحرارة، وأعلن ضرورة تجديد الخطاب الديني. وفي مؤتمر ميونيخ، المخصص لتحقيق الأمن للأوروبيين، عاد وزاد، ولت وفت في هذا الخطاب. فتجديد الخطاب الديني عنده هو أن يتم وفق هوى غير المسلمين، وهو هنا يستغل العمليات الإرهابية التي يقوم بها مسلمون لتأكيد الضرر الواقع على القوم، ومن ثم يجعل من هذه الكلام مبرراً لأن يقال في مؤتمر مناط به تحقيق الأمن للأوروبيين!
وقد وظف هذه الأعمال في توجيه الدعوة للأوروبيين بضرورة مراقبة
المساجد في بلادهم، وهي دعوة سيُدهش لها التاريخ، وسيُدهش لأننا لم نندهش لها، هذا إذا تم قطعها من سياقها، شأن كثير من الوقائع التاريخية؛ لأن سياقها سيفيد بأن الدهشة في هذا الزمان في ألا يكون السيسي مدهشاً، وهو قد أنتج خطاباً بائساً وفكاهياً في نفس الوقت؛ أفقد البؤس والفكاهة ما يلزم من الدهشة والتعجب في الأجواء العادية!
في هذه المرة، لم يكن المجرم مسلماً، ولم تكن الكنائس أو "شارلي إيبدو" هي المستهدفة بالإرهاب، فالضحايا مصلون مسلمون للجمعة في مسجدين، أحدهما هو مسجد "النور"، وكان الجاني مسيحياً متطرفاً، لكن أحداً لم يركز على ديانته، فقد تم اعتماد اصطلاح سياسي في التعاطي مع الحادث هو "متطرف يميني"!
فلا حديث عن ضرورة مراجعة الخطاب الديني المسيحي الذي أنتج هذه العقلية؛ التي ربما لم تتأثر بمقولات السيد المسيح من ضربك خدك الأيسر فأعط له خدك الأيسر، ولكنه معبأ بخطاب آخر، هو "ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً".
مراقبة الكنائس
ولم تكن جريمة نيوزلندا مبرراً لأن تمتد الإدانة للمسيحيين جميعاً، كما فعل السيسي عندما وصف 1.6 مليار مسلم بأنهم يهددون الكوكب، ولن ترتفع دعاوي عنصرية، كتلك التي أطلقها السيسي، بطلب مراقبة الكنائس، بل أحداً لن يبحث في الملف الديني للمجرم، وتتبع سجله الديني، أين كان يصلي، ومن أب الاعتراف، وما اسم الكنيسة!
فلم تجد المؤسسات الدينية المسيحية نفسها مطالبة بالاعتذار، وها هو بابا الفاتيكان يعلن في إدانة باهتة بأنه عنف لا مبرر له.. أهكذا كل ما وجدت في قواميس الإدانة يا أباهم؟!
أي من المصلين في المسجدين لم يدس لأحد في نيوزلندا على طرف، وأي المسجدين لم يصدر منهما ما يعكر الصفو، أو يمثل تهديداً لأصحاب الديانات الأخرى، ومع هذا كانت المجزرة، وكان القتل على الهوية، وكان المستهدف هو دينهم، على العكس من "شارل إيبدو" التي صدرت فيها رسومات تسخر من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أمر لا يمكن فعله مع السيد المسيح عليه السلام، بل ومع أي رمز لدين ومعتقد ولو كان بشرياً!
وقد حدث عود في هذه الجريمة، بدون أن تتحرك المؤسسات فتوقف هذا التطرف، وهو ما كان سبباً في قيام ملثمين اثنين بارتكاب جريمتهم ضد الجريدة الفرنسية، وإن كنت أدين هذا، فإني أدين في الوقت نفسه وبنفس القوة جريمة "شارل إيبدو"، التي تمثل تجاوزاً لحرية الإبداع والتعبير، إلى إهانة معتقدات الغير، وتكشف عن عنصرية مبتذلة، لكني في الوقت ذاته لست معنياً بالاعتذار، فالجاني يعاقب أو يعتذر، ولا يجوز أن يمتد أمر الاعتذار لكل مسلم، إلى حد القول "كلنا شارلي إيبدو"، ففي الحقيقة ليس كلنا "شارل إيبدو"، ولا ينبغي لنا أن نكون!
وهذا ليس موضوعنا، فعلى الرغم من أن الجريمة شخصية هنا، والعقوبة ينبغي أن تكون شخصية، فقد وجدت المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي كله نفسها مطالبة بالاعتذار، فاعتذرت، ووجد القادة العرب والمسلمون أنه لا بد من أن يعتذروا فنفروا إلى باريس محلقين ومقصّرين، تسيطر عليهم "النحنحة"، وصار العالم الإسلامي كله في خجل لأنه سبب في تهديد أمن العالم، أو هكذا قال عبد الفتاح السيسي، فتصدر منه دعوة "راقبوا المساجد"، فيحوز بذلك على مساندة الغرب، فيحكم مصر مع افتقاده للشرعية، وينتهك حقوق الإنسان وهو أمن من العقوبة أو الإدانة!
لعله درس لنا لأن نتوقف عن جلد الذات مع كل عمل إرهابي، وكأننا نحن الجناة، فالعالم لم يعزنا في قتلانا، والغرب لن يجد نفسه مضطراً للاعتذار لنا، والمؤسسات الدينية المسيحية لم تر نفسها في وضع الخجول مما حدث، ولم يجد العالم نفسه مضطراً لأن يجعل من شعاره كلنا "مسجد النور"!
فهل يستطيع القادة العرب أن يرفعوا هم الشعار كما رفعوا من قبل شعار "كلنا شارلي إيبدو"؟!
المؤكد أنهم لن يستطيعوا؛ لأن تخصصهم إدانة للإسلام والمسلمين فقط.