لم يمض على عودة رئيس الحكومة العراقية عادل عبدالمهدي إلى بغداد بعد اختتام زيارته إلى السعودية، غير ساعات قليلة، حتى خرجت أصوات متنفذة في الحشد الشعبي، تطالب حكومة الرياض، بما أسمته (حقوق الدم) كما جاء على لسان النائب والقيادي المليشياوي حسن شاكر الكعبي الذي شكك أيضا بالاتفاقيات الثنائية ومذكرات التفاهم التجارية التي وقعها عبدالمهدي مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، مؤكدا ضرورة أن يتلقى آلاف (الشهداء) والجرحى من مقاتلي الحشد، تعويضات مالية من السعودية، كبادرة حُسن نوايا قبل أي تقارب بين البلدين.
يتوهم الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد، إذا اعتقدا أنهما يتعاملان مع حكومة بغداد، باعتبارها مركزية وقادرة على الإيفاء بالتزاماتها واحترام علاقاتها مع الدول الأخرى
ولأن الكعبي يعتقد، شأنه شأن جميع القيادات الشيعية، بأن الفتاوى الوهابية وتدفق الانتحاريين من
السعودية ـ حسب قوله ـ هما ما ساهما بقتل آلاف من منتسبي الحشد، رغم أنه يعرف مسبقاً، أن القيادة السلمانية الحالية، تبرأت من الوهابية وهاجمتها، وشنت حرباً ضارية على تنظيمات القاعدة وداعش وخلاياها النائمة والصاحية ما زالت مستمرة، ولكنه ينطلق من موقع قوة ويفرض شروطاً عالية السقف على الحكم السعودي، الذي ظهر متهافتاً في رغبته بتطبيع
علاقاته مع حكومة بغداد، ومندفعاً بإغراءات مالية ومشاريع اقتصادية، منها إقامة منطقة حرة للتبادل التجاري بين البلدين في محافظة النجف، وتسيير رحلات جوية مباشرة من المنطقة الشرقية إلى مطارها الذي تديره الأحزاب والمليشيات الشيعية الموالية لإيران، وهو المطار الذي عجزت الحكومة
العراقية وسلطة الطيران الرسمية عن استرداده من الجماعات المهيمنة عليه لحد الآن.
ابتزاز سياسي
وقد بلغ الأمر بالحشد، إلى المطالبة بتعويضات مالية أيضا، عن توقف خط أنابيب ينبع الذي أنشأته الحكومتان العراقية والسعودية مناصفة نهاية الثمانينات، ولم يعمل غير بضعة شهور، لإقدام السعودية على غلقه من جانب واحد، عقب أحداث الكويت في الثاني من آب (أغسطس) 1990، وواضح أن هذه المطالبة بتعويضات عن مشروع لا علاقة للحشد به من قريب أو بعيد، تمثل أعلى أشكال الابتزاز السياسي للسعودية وإجبارها على التعاطي مع المليشيات ودفع الأتاوات إليها، بعيداً عن السياقات الرسمية والاتفاقيات الموقعة بين حكومتي البلدين، خصوصاً وأن عبدالمهدي، كما سابقه حيدر العبادي، لا سلطة له على الحشد الذي يتبع الحرس الثوري الإيراني ومرجعه الأعلى الجنرال قاسم سليماني، كما يفخر قادة الحشد جهاراً.
ويتوهم الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد، إذا اعتقدا أنهما يتعاملان مع حكومة بغداد، باعتبارها مركزية وقادرة على الإيفاء بالتزاماتها واحترام علاقاتها مع الدول الأخرى، فحكومة عبدالمهدي كما أثبتت أحداث الشهور الأخيرة، أنها مثل حكومة العبادي السابقة، مضطربة وقلقة لا تقدر على المضي حتى في برنامجها المعلن وتنفيذ بعض مفرداته في الأقل، بسبب خلافات المصالح بين عرابيها مقتدى الصدر وهادي العامري، بل إنها لم تستكمل كابينتها الوزارية لحد الآن رغم مرور نصف عام على رئاسته لها، فما زالت وزارات الداخلية والدفاع والعدل والتربية، شاغرة ولا يستطيع ترشيح وزراء لها بسبب تنافس الصدر والعامري عليها.
الصناعات السعودية وخصوصاً، المواد الغذائية والزيوت والألبان والمعلبات تحديداً، تم الاتفاق على توريد كميات كبيرة منها إلى العراق، لتعويض خسائرها في قطر، المشمولة بالحصار السعودي
وعادل عبدالمهدي أيضاً لا يختلف عن نظرائه السابقين في تعاطيه مع أزمات العراق الداخلية وعلاقاته الخارجية، ورغم كل ادعاءاته بأنه مستقل سياسياً، بعد تشظي تنظيمه السابق (المجلس الأعلى) إلى جناحين متصارعين، إلا أنه مثل إبراهيم الجعفري في هلوساته الخرافية، ويشبه نوري المالكي في ثرثرته الدعائية، ويتفوق على حيدر العبادي في تذبذب مواقفه السياسية، وبالتالي فإنه من الصعب الاعتماد على هكذا نموذج غير رصين، في إدارة البلاد بمعزل عن نفوذ مراكز القوى الداخلية التي تغلغت في جميع الميادين والمجالات، والتأثيرات الإيرانية التي امتدت إلى أغلب الوزارات والمؤسسات والأجهزة الحكومية والأمنية، وليس سراً أن ذلك النفوذ وتلك التأثيرات يقفان بالضد من تطبيع أو تطوير صلات العراق بمحيطه العربي، ويعيقان تقارب أي بلد عربي أو رغبة أي دولة عربية في تطييب علاقاتها مع العراق، وتأتي السعودية في مقدمة الدول العربية (المكروهة) من الحكومات التي قادتها الأحزاب الشيعية منذ عام 2005، وعبثاً حاول حيدر العبادي ترطيب العلاقة معها خلال رئاسته للحكومة السابقة، ولكنه رضخ لإرادة الأطراف الشيعية وإيران في منع الانفتاح على العرب، حتى أنه سمع من وسائل الإعلام خبر طرد السفير السعودي السابق في بغداد ثامر السبهان في نهاية آب (أغسطس) 2016 من قبل وزير الخارجية يومئذ إبراهيم الجعفري، ولم يمض على افتتاح السفارة السعودية في العاصمة العراقية ومباشرة السبهان عمله فيها غير عشرة شهور.
إيران والعراق
ولأن إيران وضمن سياساتها في احتكار السوق العراقية لمنتجاتها الرديئة وسلعها الكاسدة، لا تريد تعاوناً تجارياً للعراق مع جميع الدول، والعربية بالطبع على رأسها، ومنعت الحكومات العراقية المتعاقبة من إبرام عقود واتفاقيات للتبادل التجاري مع دول عدة، خوفاً من خروج العراق من دائرة نفوذها الاقتصادي، أو فقدان سيطرتها المحكمة على حركة الأسواق المحلية التي تضطر إلى عرض وبيع المستوردات الإيرانية وخصوصا المواد الغذائية والإنشائية والصناعية، وهي منتجة ومصنّعة خارج المعايير الدولية.
وصحيح أن الصناعات السعودية وخصوصاً، المواد الغذائية والزيوت والألبان والمعلبات تحديداً، هي ذات جودة عالية ونوعية جيدة، وقد تم الاتفاق على توريد كميات كبيرة منها إلى العراق، لتعويض خسائرها في قطر، المشمولة بالحصار السعودي، إلا أن الإيرانيين لن يتركوا مجالاً لتدفق السلع السعودية إلى الأسواق العراقية وإزاحتها لبضائعهم، ولن يسمحوا بتراجع صادراتهم إلى العراق، ولديهم أذرع وأدوات حكومية ومليشياوية وحزبية لتقزيم التبادل التجاري مع السعودية وتحجيم الاستيراد منها، خاصة في المرحلة الراهنة التي هي بأمس الحاجة إلى أموال تأتي إليها من الخارج لتعويض خسائرها المالية جراء وقف استيراد النفط منها وانحدار عملتها المحلية (التومان) إلى الحضيض بفعل العقوبات الأمريكية التي ما تزال في بداياتها.
وعموماً فإن المنحة السعودية (مليار دولار) المقررة للحكومة العراقية، وحزمة الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التجارية المعقودة بين الرياض وبغداد، لن تثمر أشياء نافعة للجانبين، بسبب افتقارها إلى بيئة مناسبة ونوايا حسنة وإرادات متينة، لتفعليها وتعميم فائدتها على البلدين بتوازن واستحقاق، وستظهر الأيام المقبلة خطأ القيادة السعودية في تعاملها مع عادل عبدالمهدي الذي (لا يحل ولا يربط) كما يصفه العراقيون، كما أخطأت في تقييم حيدر العبادي الذي كان مستشارها ثامر السبهان يقول إن ولايته الثانية في جيب دشداشته، وستذهب الاموال السعودية المخصصة للحكومة العراقية وهي تندب حظها العاثر، نتيجة تهور سياسات محمد بن سلمان واندفاعاته غير المحسوبة وإصغائه لثرثرة ابن السبهان، التي خسرّت السعودية أموالاً وسمعة ومكانة.