هل هناك مخاوف على الثورة السودانية العظيمة من أن تقتل في مهدها؟ نقول بدون تردد إن هذه المخاوف موجودة وحقيقية، وبصورة يستطيع أي متابع من بعيد أن يراها واضحة دون تفكير طويل!
فالثورة التي قدمت أجمل الصور وأظهرت روح السودان الحقيقية بمقابل الصورة البائسة التي صنعها نظام البشير وما سبقه من أنظمة عسكرية تداولت على الحكم في معظم المراحل التي تلت الاستقلال، تتعرض لخطر يتهدد جوهرها، وهي أنها ثورة ليست فقط من أجل الخبز، ولا من أجل التحول الديمقراطي فقط، بل هي من أجل الكرامة أيضا، ومن أجل صناعة نموذج يحتذى للدول التي يحكمها شعبها ولا تخضع لنفوذ الآخرين.
ينشط المجلس العسكري باعتباره الحاكم الفعلي في سياسة خارجية لا تنسجم مع أهداف الثورة، ولا مع القيم التي يمثلها جوهر هذه الثورة
ولعل ما يخشاه الغرب ومعه دول الثورات المضادة من أي ثورة عربية هو هذا الجوهر بالذات، لأنها تدرك أن الدول التي تقودها حكومات منتخبة ديمقراطيا يجب أن تمثل الضمير الجمعي لشعوبها، وهي باتت تعرف من التجربة التاريخية القريبة أن ضمير الشعوب العربية الحقيقي غير المزور هو مع الاستقلال والحريات وضد الاستبداد ومع القيم الحقوقية الإنسانية ومع فلسطين ضد الاحتلال بالتأكيد.
وفي ظل الخلافات بين قوى الثورة وبين المجلس العسكري من جهة، وبين قوى الحرية والتغيير وبين الأحزاب الأخرى -غير حزب المؤتمر الوطني الذي يستحق الإبعاد عن الساحة-، ومع انشغال القوى الثورية في هذه الخلافات حول تشكيل المجلس السيادي وغيره من الهيئات الانتقالية، ينشط المجلس العسكري باعتباره الحاكم الفعلي في سياسة خارجية لا تنسجم مع أهداف الثورة، ولا مع القيم التي يمثلها جوهر هذه الثورة.
يحدث هذا النشاط دون إدانة أو جدل كبير، في حين أن الثورة لا تزال في قوتها، والجماهير لا تزال في اعتصامها، والنظام في أضعف حالاته، فكيف سيكون الحال عندما تتراجع القوة الجماهيرية مع الوقت -وهو أمر طبيعي ومتوقع-؟ وكيف ستكون سياسة المجلس العسكري عند تراجع زخم الثورة والانشغال في "حرائق" السياسة اليومية في بلد منكوب اقتصاديا ويحتاج لجهود كبيرة لإنعاشه وإخراجه من أزماته السياسية والأمنية والاقتصادية؟
إن آخر الأحداث التي تثير النقاش حول السياسات الخارجية هو الجدل الذي رافق زيارة رئيس المجلس العسكري عبد الفتاح البرهان لمصر ولقائه بقائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي، وخصوصا في ما يتعلق بتوقيع اتفاقية لضبط الحدود ومكافحة الإرهاب وتعهد البرهان بعدم "إبقاء أي عنصر مطلوب أمنيا لمصر" على أراضي السودان.
وبعيدا عن الجدل السوداني الداخلي حول توقيع اتفاقية لضبط الحدود قبل ترسيمها، فإن ما يهمنا الآن هو التعهد بتسليم المطلوبين أمنيا للسلطات المصرية، في ظل نظام أمني عسكري مستبد يحكم بمنظومة قضائية مهترئة، وبالتالي فمن المستحيل ضمان أن يكون المطلوبون لمصر هم مجرمون أو إرهابيون حقا، بل من المؤكد أن المقصود بهم السياسيون اللاجئون من معارضي الانقلاب وخصوصا من أعضاء جماعة الإخوان.
الثورة يجب أن تبقى واعية لدور المجلس الذي يجب أن لا يورط البلاد باتفاقيات دولية في هذه المرحلة
إن خطورة هذا التعهد أنه أولا لا يقطع مع نهج حسن البشير بعقد الصفقات المتناقضة مع جميع الأطراف، ثم إن هذه الاتفاقية تعني إخضاع القوانين المحلية السودانية لسياسة نظام عسكري استبدادي يحكم مصر بدلا من جعلها تنسجم مع قيم الثورة السودانية، كما أنها تتعارض مع القوانين الإنسانية الدولية التي هي جزء من روح الثورة المتناقضة تماما مع روح حكم نظام البشير ومع نهج المجلس العسكري الحاكم حاليا.
بالطبع يمكن تفهم انشغال القوى الثورية السودانية بالصراع مع المجلس حول شكل المرحلة الانتقالية، ولكن الثورة يجب أن تبقى واعية لدور المجلس الذي يجب أن لا يورط البلاد باتفاقيات دولية في هذه المرحلة، لأن طبيعة المراحل الانتقالية تفرض عدم اتخاذ قرارات مصيرية أو توقيع معاهدات دولية تكبل الحكومات التي سيفرزها التحول الديمقراطي لاحقا.
لا يتوقع أحد من السودان أن يفتح معارك مع دول الجوار أو العالم في ظل وضعه الحالي، ولكن المتوقع من بلد لا تزال ثورته في الشارع أن لا يكون جزءا من ثورة مضادة
ثمة بعد آخر في هذا النقاش يتعلق بطبيعة المطلوبين المفترضين لمصر، وهو أنهم غالبا من الإسلاميين، وهو ما قد يقلل من حماس قوى الحرية والتغيير للتضامن معهم بسبب خلافهم مع إسلاميي السودان الذين كانوا جزءا من نظام البشير، وإذا صح هذا الافتراض فهو يعني أن القوى الثورية لا تؤمن حقا بالقيم الديمقراطية والإنسانية التي لا تحاكم الإنسان على توجهاته وأيديولوجيته، بل على أفعاله وبما ينسجم مع حقوقه الأساسية كإنسان أولا وأخيرا.
والحقيقة أن هذه القضية ليست سوى واحدة من قضايا أخرى كثيرة مرتبطة بنفس الفكرة، مثل سياسة التمحور التي يتبعها المجلس العسكري، ومحاولة تقديم نفسه بشكل واضح كجزء من محور عربي ضد آخر، في حين يحتاج السودان الجديد لعلاقات ندية ومتوازنة مع الجميع.
ويضاف إلى ذلك الموقف من الحرب في اليمن والتي باتت مكلفة جدا على الصعيد الإنساني وأصبحت مثار انتقاد عالمي غير مسبوق باعتبارها أحد أسوأ الكوارث السياسية في القرن الحالي. وإذا استمر المجلس العسكري في نهجه الحالي فلا نستغرب أن يعلن مشاركته في منتدى البحرين التمهيدي لصفقة القرن!!
السودان الجديد كما تريده الثورة هو بلد ديمقراطي وقائم على الشراكة في الداخل، ولكنه أيضا بلد ملتزم بالقيم الإنسانية وبالكرامة الوطنية وبعدم دعم الاستبداد وبموقف قومي ضد الاحتلال.
لا يتوقع أحد من السودان أن يفتح معارك مع دول الجوار أو العالم في ظل وضعه الحالي، ولكن المتوقع من بلد لا تزال ثورته في الشارع أن لا يكون جزءا من ثورة مضادة تستهدف الثورات الشعبية العربية جميعها، بما فيها ثورة السودان، لأن هذا يعني أن الثورة ستقتل في مهدها وفي جوهرها الأساسي!
هل يتكرر السيناريو في السودان؟
عسكر الخرطوم والطبع الذي يغلب التطبُّع
عسكر السودان والتبرير بغرض التغرير