الكتاب: الصليبية والجهاد- حرب الألف سنة بين العالم الإسلامي وعالم الشمال
الكاتب: ويليام بولك، ترجمة د. عامر شيخوني، مراجعة د. عامر يحيى الفَرَجِي
الناشر: الدار العربية للعلوم- ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى، أيار/مايو 2019،
(582 صفحة من القطع الكبير).
لم يتردد رجال القبائل كثيراً بل اختاروا السلامة وأصبحوا مسلمين، إلا أنهم لم يصبحوا "مؤمنين"، ويبدو أنهم اعتبروا علاقتهم بالجماعة المسلمة علاقة شخصية وولاءً للنبي محمد "فارتدوا على أعقابهم" بعد وفاته.
حروب الردة والفتوحات في عهد الخلفاء الراشدين
أصبحت الدولة المحمدية مهددة بالزوال كسراب في هجير الصحراء. فأدرك أقرب الأوفياء من الصحابة لسيدنا محمد "صلى الله وعليه وسلم" أن عليهم التصرف بسرعة فاجتمعوا في ما يبدو أنه كان اجتماعاً سريعاً وقرروا أن يجعلوا واحداً منهم "متابعاً" وهو المعنى الأساسي لكلمة "خليفة" أو "أميراً للمؤمنين" واختاروا الرجل الذي كان يؤم الناس في الصلاة أحياناً، الرجل الذي يقف أمام الناس في الصلاة (الإمام). كان الإمام الجديد أبو بكرالصديق وهو والد زوجة النبي محمد، ولم يتمتع بأية صلة خاصة بالله، بل كانت وظيفته تسيير أمور المجتمع، فأصبح ما يسميه رجال أعمال هذه الأيام الرئيس التنفيذي. كان عليه أن يتابع تنفيذ الأوامر والشرائع التي نقلها الرسول محمد عن الله، ولم يكن دوره أن يبتكر أو يصلح، بل أن يطبق ما كان قد تم تبليغه وإعلانه.
يقول الكاتب ويليام بولك في هذا الصدد: "كانت أولى مهام أبي بكر أن يستعيد رجال القبائل الذين ارتدوا، ولكي يحقق ذلك أطلق في شبه الجزيرة العربية حرباً لم تعرف مثل شدتها، وبحكمة بالغة تابع ما كان محمد قد أسسه من قبل، فقد وجه طاقات ورغبات رجال القبائل نحو أكثر ما يحبه البدو تقليدياً، الغزو، فاتجهوا نحو الشمال عبر صحراء النفود ضد ولاية سوريا التابعة للإمبراطورية البيزنطية، ونحو مناطق دجلة والفرات التابعة للإمبراطورية الساسانية الإيرانية".
وأضاف: "كان من النتائج غير المقصودة لهذه السياسة في تغيير اتجاه اهتمام القبائل أنها أطلقت بوادر الفتوحات الكبيرة التي أوصلت المسلمين المحاربين إلى أطراف الصين وأواسط فرنسا، وما كان في بدايته حرباً قبلية استمر كمبدأ أساسي في السياسة الخارجية للدولة الإسلامية على مدى القرنين التاليين، وأنشأ إمبراطوريتها الواسعة التي امتدت في أفريقيا وآسيا، كتب المؤرخ الكبير ابن خلدون فيما بعد عن المسلمين الأوائل أنهم: استداروا بوجوههم نحو اتجاه واحد ما أوقف صراعاتهم وانقساماتهم مؤقتاً على الأقل"، (ص 43 من الكتاب).
كانت أولى مهام أبو بكر أن يستعيد رجال القبائل الذين ارتدوا، ولكي يحقق ذلك أطلق في شبه الجزيرة العربية حرباً لم تعرف مثل شدتها، وبحكمة بالغة تابع ما كان محمد قد أسسه من قبل
مقتل عثمان وقصة علي ومعاوية
فتح مقتل عثمان نافذة جديدة في الدولة الإسلامية، فعلى الرغم من كونها قوية في الخارج، إلا أنها كانت ضعيفة في مركزها، ويبدو أن كل من استطاعوا الخروج قد فعلوا ذلك، ولم يكن هنالك أي حرس أو شرطة في المدينة. استطاعت العصبة الصغيرة التي قتلت عثمان البقاء في منزله عدة أيام قبل أن يتم طردهم، ولم يفعل أصحاب عثمان أي شيء لإنقاذه، ولا حتى منافسُهُ المفترض علي، الذي كان أكبر من بقي على قيد الحياة من أقارب الرسول محمد.
يقول الكاتب ويليام بولك، في معرض تحليله لبداية الصراع بين علي ومعاوية: "لام أقارب عثمان علياً بسبب مقتل قريبهم وطالبوا بالثأر، خاصة معاوية، الرجل الذ منحه عثمان الولاية القوية المهمة في منطقة شرق المتوسط. كان معاوية في موقف قوي ومعه جيش قبلي متمركز حول دمشق، بينما كان علي يعيش في المدينة التي كانت قد ضعفت كثيراً ولم يكن تحت تصرفه أي قوات قبلية، وزاد الأمر سوءاً اتهام بعض المؤمنين الأصليين علياً بالتواطؤ في الجريمة، إلا أن مؤهلاته للخلافة لم تكن موضع شك: فقد كان صهر محمد ووالد حفيدين من أحفاده، الحسن والحسين.
اجتمع شمل المجتمع الإسلامي من جديد سنة 661 في الخلافة الأموية التي كانت في الحقيقة امبراطورية مدنية تحت حكم معاوية
يقول الجابري: إذا نحن نظرنا إلى الدولة بوصفها ظاهرة سياسية أولاً وقبل كل شيء، فأننا سنجد أن ملك معاوية كان فعلاً دولة السياسة في الإسل
إن طابع العلاقة بين هذه المجالات أو الحقول، هو الذي يحدد سمات المجتمع المدني. ويمكن القول أن المجال السياسي" (ونحن هنا نستعير هذ المفهوم من الفكر السياسي الغربي، حيث أن المجال السياسي ظهر مع نشوء النظام الراسمالي، وانجاز الثورة الديمقراطية البراجوازية، وانقسام المجتمع إلى بنيتين، بنية فوقية قوامها أجهزة الدولة،، ومؤسساتها والأيديولوجيات المرتبطة بها، وبنية تحتية تمثل القاعدة الاقتصادية التي تشكل الصناعة عمودها الفقري)، باعتباره النتاج الأعلى للحقول الأخرى، هو الذي يحدد طابع المجتمع، وهو الذي تتركز فيه سائر المجالات الأخرى، وهو يبدو للوهلة الأولى مجرداً من ملامحه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بمعنى آخر أن السياسي هو الاقتصادي وقد ضمر فيه طابعه الطبقي المباشر، وأصبح أكثر تجريداً وغموضاً.
ولما كان للحقل السياسي أو المجال السياسي هذه الأهمية، بات من الضروري أن نفرز هذا في هذا الحقل، مجال الدولة، ومجال السلطة، ومجال المعارضة. فالمجتمع المدني لايحقق توازنه واتساقه إلا بتوازن هذه المجالات واتساقها، كذلك من المهم أن نتساءل عن طبيعة الدولة الأموية بدلالة العلاقة بين السلطة والمعارضة.
صحيح أن دولة معاوية تمثل نقلة نوعية لجهة أنه انبثق فيها مجال خاص تمارس فيه السياسة كسياسة، ومشروعه السياسي كان يدفع بالمجتمع نحو التقدم، إلا أن بنى المجتمع وطابع الصراعات الاجتماعية والسياسية كانت تفرض عليه التوسل بالعلاقات القبلية، والنزاعات ما بين القبائل لتحقيق ضرب من التوازن السياسي يضمن توطيد حكمه. فقد استقوى مثلاً بقبائل الجنوب ليعوض أو يتلافى انفضاض بعض قبائل الشمال عن حكمه، واصطفافها خلف المعارضة السياسية.
لقد تغير الوضع تماماً مع الدولة الأموية. وكان انتصار معاوية على علي يمثل، حسب تعبيره، انتصارا لـ"أهل الجزاء.. والغناء" في الأعمال والوظائف "على أهل الاجتهاد، والجهل بها". وباصطلاحنا الخاص لقد انتصرت "القبيلة" على"العقيدة". في القمة انتصر مروان بن الحكم على عمار بن ياسر (بوصفهما رمزين) وفي القاعدة انتصرت "قريش" على"السبئية". وهكذا حكم معاوية باسم "القبيلة" وليس باسم "العقيدة" فانفصل في شخصه "الأمير عن العالم"، وامتد ذلك إلى أجهزة الدولة فصار "الامراء" فريقاً و"العلماء " فريقاً أخر.
هذا في القمة، اما القاعدة التي كانت تؤطرها القبيلة "فقد انقسمت زمن الفتنة إلى معسكرين: معسكر قريش، ومعسكر "العرب" (من اليمن وربيعة) وعلى رأسه علي، وبينهما أفراد وجماعات قررت اعتزال الفتنة. وبانتصار معاوية صارت القبائل التي قاتلت معه وانضمت اليه هي وحدها "الجند" وقد بلغ تعدادها ستين الفا، أما المجموعات التي قاتلت ضده، فقد أصبحت هي والتي كانت متمردة أو معتزلة، أصبحت "رعية" وهكذا انقسمت القاعدة بدورها إلى جند ورعيو.
انهيار الدولة الأموية وانتصار الثورة العباسية
بدأت الثورة في المشرق حوالي سنة 740م، وانطلقت من خراسان لتنتشر عبر العراق وسوريا، وانخرط فيها متعصبون من أمم كثيرة ساروا تحت راية سوداء، تم تجنيدهم وقيادتهم من طرف رجل غامض اسمه "أبو مسلم" الخراساني، لا يُعْرَفُ شيء موثوق عنه، لا عن أصله ولا لغته ولا اسمه الحقيقي، إلا أنه كان دون أي شك أحد أهم الثوريين الاستثنائيين في التاريخ، فقد انطلق للقضاء على الخلافة الأموية.
يبدو لي أن نمط المذهب الشيعي موروث من الزرادشتية، وأن "ترجمة" هذه الديانة إلى الإسلام قد احتاجت إلى مئات السنين
يرى الكاتب ويليام بولك، أن المذهب الآخر في الإسلام، وهو المذهب الشيعي، قد تأثر بالديانة التقليدية الإيرانية: زرادَشت: "ربما كانت معارفنا عن زَارَدَشت أقل من بقية شخصيات الأديان العالمية، فلا يعرف أحدٌ كثيرًا عن شخصيته، إلا أن الدين الذي أعلنه منذ حوالي 1000 سنة قبل الميلاد أثَّر بعمق على اليهودية والمسيحية. فقد وعظ بوجود إله واحد خلق السماء والأرض، والخير والشر، والحقيقة والبهتان، وأن حياتنا الدنيا ستنتهي بيوم القيامة عندما سيظهر مسيحٌ لكي يبعث الموتى ويحكم بين الناس ويمنح الصالحين حياة خالدة. تنبأ زرادشت بظهور رجل يشبه درويش الصوفيين، وسيد للمعرفة، وعلماء ومشايخ... وأعلن أن الله قد وضع قانوناً لتنظيم المجتمع مثلما توجد "الشريعة" في الإسلام، كانت الزرادشتية شديدة العاطفية كما مارسها الإيرانيون إذ ينخرط العباد في أداء تمثيلية انفعالية يصورون فيها دراما الفشل الإنساني ويكفرون خلالها عن ذنوبهم. يظهر ذلك فيما بعد في طقوس المذهب الشيعي حيث يتم التركيز على سلالة الرجل الذي يُنسب إليه الإلهام بالمذهب الشيعي، وهو الخليفة عليّ"(ص 50 من الكتاب).
باختصار، يبدو لي أن نمط المذهب الشيعي موروث من الزرادشتية، وأن "ترجمة" هذه الديانة إلى الإسلام قد احتاجت إلى مئات السنين، إلا أن الطريق كان قد بدأت في 748 أو 749 ، بعد حوالي 116 أو 117 سنة من وفاة محمد عندما بدأ أبو مسلم مسيرته للقضاء على الخلافة الأموية.
ويضيف الكاتب قوله: "استمد المتمردون قوتهم ليس من سلاحهم أو من تنظيمهم، بل من حَمِيَّة ِإيمانهم ودعايتهم الأُخْرَوِيَة، وذلك بما يشبه جيش الدولة الإسلامية (داعش) هذه الأيام، استطاع أبو مسلم أن يقنع المتذمرين من سكان سوريا والعراق آنذاك أنه قد تَسَلَّطَ عليهم واستغلهم نظام لا يخاف الله، وأنّ الثورة ضرورة شرعية، لم تكن لديه وسائل اتصالات وإعلام جماهيرية، ولكن يبدو أنّه كان يُرْسِلُ من يَنْشُرُ الإشاعات قبل وصول رجاله. كان أبو مسلم ماهراً في تحركاته، وكان لا يختار القتال إلا في معارك صغيرة كان يعلم أنّه يستطيع الانتصار فيها، مثل بعض الثوار الذين أتوا بعده، واستطاع إقناع الناس بأنّ انتصاره على النظام الأموي القوي يدل على الموافقة الإلهية المقدسة. وقد طبق أبو بكر البغدادي في الدولة الإسلامية (داعش) مثل هذه الأساليب هذه الأيام. قاد كل انتصار إلى الذي بَعْدَه، فانضم أتباعٌ من كافة أرجاء العالم الإسلامي تحت لوائه الأسود. وخلال أقل من سنة واحدة استطاع جيشه غير المتناسق القليل العدة والعتاد أن يقضي على الخلافة الأموية"(ص 50).
انطلقت بعد ذلك حركات كان لها آثار عميقة ممتدة حتى أيامنا هذه، إلا أنه في تلك الفترة يبدو أن الحركة الثورية قد انْتَثَرَتْ وتم "اختطافها" من قبل فرع آخر من عائلة الرسول محمد، أعدموا زعيمها أبو مسلم فوراً، وتخلّوا عن رسالته الثورية. ظهر الأمر وكأن اتباع أبو مسلم قد هُزِمُوا، إلا أن ذلك لم يكن صحيحاً وتاماً، ولم يتم القضاء على رسالتهم الدينية، فالقضاء على الأفكار أصعب من القضاء على الأشخاص. فاتجهت الأنظار كلياً نحو المنتصرين الذين اعلنوا أنهم هم أنصار السنة الصحيحة، ونصبوا خليفة جديدًا باسمالعباس، وكان أجداد هم من قريش.
إقرأ أيضا: ظهور الإسلام وقيام الدولة المحمدية.. معطيات تاريخية
ظهور الإسلام وقيام الدولة المحمدية.. معطيات تاريخية
المشهد المقدس.. طمس تاريخ الأرض المقدسة منذ 1948
الأصولية العلمانية والارتباط التركي بالغرب.. مسار متعثّر