في مختلف القضايا الشّائكة اليوم يبرز مصطلح الاضطرار، ويعلن القائمون على القضايا المختلفة أنّهم مضطرون للتّواصل مع هذا الطّرف الدّولي أو ذاك؛ ممّن يكون التّواصل معه مستفزّا لطرف آخر.
فمنهم من يرى علاقته مع الأمريكان الذين يقتلون شعوبا كاملة وبرعون الطّغاة المستبدّين اضطرارا لا مفرّ منه، ومنهم من ينافح عن علاقته بإيران التي تستبيح دولا كاملة وتهيمن على حواضر وعواصم عريقة هيمنة احتلال مقيت بأنّها من قبيل أكل الميتة.
وفي ظلّ طغيان مفهوم الأمّة في الخطاب الجمعي، مع بقائه هلاميّا في الآليات العمليّة؛ يتعامل أصحاب القضايا معه بالعاطفة المشتعلة والحماسة الخطابية، ممّا يفرز حالة هجوميّة عند كلّ سلوكٍ يراه طرفٌ ما اضطرارا لأكل الميتة، بينما يراه الطّرف الآخر طعنا في الظّهر وخذلانا للأمّة.
معَ تشابك الحالة السياسيّة وتداخلاتها الحرجة، تزدادُ الصورة تعقيدا، فالعدوّ المباشر في ساحةٍ هو الحليف الاضطراريّ في ساحةٍ أخرى، ويبرز التنازع الداخلي نفسيّا وإعلاميّا وسياسيّا عند أصحاب القضايا أنفسهم
ومعَ تشابك الحالة السياسيّة وتداخلاتها الحرجة، تزدادُ الصورة تعقيدا، فالعدوّ المباشر في ساحةٍ هو الحليف الاضطراريّ في ساحةٍ أخرى، ويبرز التنازع الداخلي نفسيّا وإعلاميّا وسياسيّا عند أصحاب القضايا أنفسهم؛ كلّما حدثَ تواصل من ابن الجرح المفتوح في قضيّة ساخنة مع عدوٍّ لقضيّة مشتعلة وسببٍ في جرحها الرّاعف، أو صدر تصريح أو جرت مقابلة إعلاميّة تنكأ الجراح وتفجّرُ الجدل.
وبما أنَّ الغالبيّة من هذه القوى تصفُ أفعالها وتواصلاتها وتصريحاتها بأنّها من باب أكل الميتة، فكان لزاما أن يكون لهذه الحالة ضوابطها وقواعدها، وفيما يلي بعضُ أهمّ القواعد الضّابطة لأكل المينة في الاضطرار السّياسي:
القاعدة الأولى: فيمَن يقدّر الضّرورة
أكلُ الميتة يباحُ عند الاضطرار؛ فالضرورات تبيح المحظورات، وهذه الضرورة يقدّرها الآكل لا الناظر المتفرّج، وعلى المضطرّ لأكل المينة تقديمَ خطابٍ مقنع حول الأسباب والدّوافع التي ألجأته إلى هذا.
القاعدة الثّانية: في تحميل المسؤوليّة
عند رؤيتك من يأكل الميتة والناس من حوله لديهم أطايب الطعام يمنعونها عنه فمن غير المقبول أن ينصَبَّ لومك وشتمك على من أكل الميتة بل ينبغي أن تصرخ غاضبا في وجوه من منع عنه الحلال الطيب: لماذا أيها المجرمون تمنعون عنه الطعام وتدفعونه إلى أكل الميتة دفعا؟! أنتم المجرمون لا هو.
القاعدة الثّالثة: في ازدواجيّة التّعامل وانتهازيّة الانتقاد
إذا رأيت من يتصيّد الأخطاء الناتجة عن أكل الميتة، ثمَّ تراه يخرس تماما عن توجيه كلمة لومٍ أو تجريمٍ إلى من يملكون أطايب الطعام ودفعوه إلى أكل الميتة دفعا، فاعلم بأنه صاحب هوى، أو غبيّ قاصر النظر، أو منافق يداهن أصحاب الطعام على حساب الحقّ؛ عسى أن يناله فتاتٌ رخيصٌ مثله.
إباحة أكل الميتة ضرورة، والضّرورة تقدّر بقدرها، فلئن كان أكل الميتة مقبولا لدفع الهلاك، إلا أنّ مدح الميتة وتدبيج العبارات الأنيقة في وصف لذّة طعمها، يأنفه الطبع
القاعدة الرّابعة: في المبالغة في مدح الميتة والثّناء عليها للمضطرّ
إباحة أكل الميتة ضرورة، والضّرورة تقدّر بقدرها، فلئن كان أكل الميتة مقبولا لدفع الهلاك، إلا أنّ مدح الميتة وتدبيج العبارات الأنيقة في وصف لذّة طعمها، يأنفه الطبع السليم وتأباها الفطرة النقيّة.
ففرقٌ كبير بين أن تأكل الميتة مضطرّا، وبين أن تطبخها وتصنع منها "منسفا" فاخرا وتزيّنه بالمُكسّرات، وتُنزل صورته على "انستغرام"، وتنشر مقالا في كون لحم الميتة أشدّ لذّة من اللحم الطّازج!!
القاعدة الخامسة: في إنصاف الميتة وشكرها
يباحُ لآكل الميتة أن يقول: إنّ أكل الميتة كان سببا في بقائه على قيد الحيا، من باب وصف الواقع دون مبالغةٍ أو ابتذال مرفوض، وشكرها المعتدل على ما قدّمته من أسباب النّجاة والحياة، وهذا لا يبيحُ ذمّ اللحم الطّازج والطّعام الطيّب والانتقاص من قدره.
القاعدة السّادسة: الواجب تجاه آكل الميتة عند تجاوزه ووقوعه في المبالغة
عند قيام آكل الميتة بالمبالغة غير المقبولة في مدح الميتة ووصف جمالها ولذتها، فإنه يجب على العقلاء المنصفين الصّادقين في نصحهم أن يأخذوا على يديه بحرصٍ لا انتقامَ فيه واتقادٍ، بغيةَ البناء لا الهدم، قائلين له: على رسلك فإنّها ميتة، وستبقى ميتة نجسة مهما ساهمَت في نجاتك، وحذارِ حذارِ أن يدفعكَ فقدان الطّعام الطيب إلى فقدان توازنك؛ فتتخيل أفضلية الجيفة على الحلال الطيب، أو تتصور أنها الأصل الذي عليك أن تعيش عليه.