فوجئت بي متلبساً بتشجيع المنتخب الجزائري، في مباريات كأس الأمم الأفريقية، رغم أن علاقتي بكرة القدم انتهت في مرحلة مبكرة من عمري المديد بإذن الله تعالى. ولا أظن أن الملاعب خسرت شيئاً بهذا الاعتزال، كما أنني لم أشجع في حياتي فريقاً سوى الزمالك ولأسابيع قليلة، من باب نصرة الأقليات!
كنت في مدرسة محمد فريد الإعدادية بجهينة، وقد خُيّل لي أن المدرسة جميعها تشجع النادي الأهلي، إلا "صلاح"، والذي كان زميلي في نفس المرحلة، ومع كل مباراة يُهزم فيها الزمالك، أو ينتصر فيها الأهلي، أو يفوز بها فريق آخر غير الزمالك وغير الأهلي، تتجمع المدرسة حول "صلاح" هذا، باعتباره رمز الهزيمة الأوحد ورايتها الوحيدة، فيضيع دفاعه وسط أصوات العامة من "الأهلوية"، وعليه قررت أن أشجع الزمالك.
حاولت في البداية أن أشاهد مباراة كاملة، لكن الملل سرعان ما تسرب إلى نفسي، واكتشفت أنه ليس شرطاً لتحضر مباراة لتتحدث عما جرى فيها وتهزم خصمك في ساحة الجدل والنقاش، فنصرت "صلاح" ظالما ومظلوماً، وتحدثت عن المباراة موضوع النقاش كما لو كنت أشاهدها وأنا في المعلب.. الأمر غوغائية وأصوات متداخلة، ومعركة يحسمها الأعلى صوتا، والأكثر همّة، وليس فقط من تابع المباراة بعناية. ومرة وراء الأخرى، لم يعد أحد يقترب ناحية من ممثل الأقلية في المدرسة، ولم أعد أنا أشجع الزمالك، أو أي فريق آخر!
تبدد كل هذا بثورة يناير، وتقاسم شعب الجزائر الفرحة بها مع المصريين الذين عبروا في أكثر من مناسبة أنه لم يكن لهم في الأمر من شيء، وأنها معركة نظام وإعلامه وأزلامه
ما جرى في هذه الأيام، هو أحد دوافع تشجيع المصريين للمنتخب الجزائري، وبلغ من غباء النظام الحالي وإعلامه وأزلامه، أنهم استدعوا هذه السابقة لتحريض الشعب المصري في الاتجاه الآخر، وتذكيرهم بالثائر القديم مع الشعب الجزائري الذي اعتدى على المشجعين المصريين في الخرطوم
جاء يتمطى
وجاء السيسي إلى الاستاد يتمطى، باعتبار أن ما سيحدث فيه هو إنجاز له، واندفعت دار الإفتاء المصرية، خارج اختصاصها الوظيفي لتدعو المصريين لتأييد المنتخب الوطني، واندفع الإعلام مهللاً ومبكراً بهذا الإنجاز التاريخي على أرض مصر. وكان السيسي وهو يظهر في صورة من يعطي توجيهاته للاعبين، يستعد لدوره الجديد كراعٍ للانتصار الذي حققه المنتخب الوطني. وكان طبيعياً أن يكون الرد عليه بتوظيف سياسي في الاتجاه المعاكس، فهتف المنتخب الجزائري لـ"أبو تريكة"، وهي رسالة سياسية، موجهة لنظام بائس؛ اختزل نفسه لتكون الدولة في مواجهة الفرد، ونفخ في الفرد ليكون في حجم دولة، وأعلن العداء مع "أبو تريكة"، لمواقف سياسية سابقة؛ كان أهمها انحيازه في الملعب لغزة، في وقت يعاديها نظام مبارك، لكن النظام الذي كان يملك الحد الأدنى من الوعي السياسي، رأى أن الدخول في معركة مع لاعب مشهور هي خسارة بلا مبرر، فقام الإعلام بالهجوم عليه، ثم سرعان ما علم أنها معركة خاسرة فتوقف عن ذلك!
رسالة سياسية، موجهة لنظام بائس؛ اختزل نفسه لتكون الدولة في مواجهة الفرد، ونفخ في الفرد ليكون في حجم دولة، وأعلن العداء مع "أبو تريكة"، لمواقف سياسية سابقة
أراد عسكري مصر أن يوظف إقامة المباريات سياسياً، ففشل وانقلب السحر على الساحر، ووظفتها الشعوب ثوريا
وزاد الجمهور الجزائري بالهتاف باسم فلسطين، فردوا غيبة الأمة. وفي الغالب، فإن الأنظمة العربية مع عمالتها المؤكدة، لا تجد حرجا في هتاف الشعوب باسم فلسطين، لكن النظام الذي التقى وزير خارجيته بوزير خارجية إسرائيل في القدس، بما في ذلك من دلالة، رأى أنه يهان بهذا الهتاف، فقد تحسس بطحته، واندفع إعلامه يهاجم الجزائريين، فالكلام لكِ يا جارة!
لا تنس أن المشجعين الجزائريين جاءوا من بلد يشهد حراكاً عظيما، أكد أن الربيع العربي مستمر، وأن العسكر لا يمكنهم بآلة البطش أن يقضوا على إرادة الشعوب. فبعد عشرية سوداء، ها هو الشعب الجزائري يبدأ من جديد معركته من أجل الاستقلال الوطني، مما أيقظ جينات الثورة من جديد داخل المصريين، وعلى الباغي تدور الدوائر.
لقد أراد عسكري مصر أن يوظف إقامة المباريات سياسياً، ففشل وانقلب السحر على الساحر، ووظفتها الشعوب ثوريا.
فتحية للجزائر، شعبا، ومنتخباً، ومشجعين.
أشواق عربية للوحدة والديمقراطية
الإسلام السياسي ونهاية العالم الذي نعرفه