قطعت المرأة التونسية أشواطا كبيرة في مسيرة فرض قوانين تحررية بما يتماشى ومواثيق حقوق الإنسان الدولية. ولكن القانون لم يترجم على الأرض في شكل مشاريع وأرقام تؤكد رفع المظالم الواقعة على المرأة بحكم العادات والتقاليد، التي أخذت في كثير من الحالات طابعا دينيا.
وعلى الرغم من أن ملف المرأة لم يعد محورا رئيسيا في صراع المحافظين والجداثيين في تونس، بحكم المنجز القانوني والنضالي لمنظمات المجتمع الدني في الانتصار لقضايا الحريات بما في ذلك حرية المرأة، فإن واقع الحال لازال ينبئ باستمرار تردي حقوق المرأة وامتهانها في كثير من الأحيان.
وإذا كانت الثورة التونسية قد فتحت أبواب الحريات على مصراعيها، كما مكنت منظمات المجتمع المدني بما في ذلك المنظمات العاملة لحقوق المرأة من ملامسة كافة القضايا، فإنها على صعيد واقع المرأة لم تقدم الكثير واقعيا، فأين الخلل؟
الصحفي والإعلامي التونسي الحسين بن عمر يفتح في تقرير خاص بـ "عربي21"، ملف الدور السياسي للمرأة التونسية من مدخل الانتخابات الرئاسية والتشريعية.
تمثيل ضعيف للمرأة في الرئاسيات
عاد ملف المرأة في تونس ليخيم على الساحتين الفكرية والسياسية، وليتصدر أولويات أجندة منظمات المجتمع المدني في تونس، بالتزامن مع موسم الانتخابات الرئاسية والتشريعية الذي انطلقت معاركه مبكرا في الأدب والإعلام قبل الصالونات السياسية.
ومع أن معركة المساواة في الإرث التي اقترحها الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي لم تقف فصولها بعد، فقد بدا لافتا للانتباه الحضور المحتشم للمرأة على قائمة المترشّحين للانتخابات الرئاسية، المزمع تنظيمها يوم 15 من أيلول (سبتمبر) الجاري، حيث ترشحت امرأتان للمنافسة على منصب الرئاسة من أصل 26 مترشحا هي القائمة النهائية المتنافسة على هذا المنصب، هما المرشحتان الحزبيّتان سلمى اللومي الرقيق وعبير موسي.
ضعف الترشّحات النسائية المقبولة لم يمنع معظم المنابر الإعلاميّة، المخصصة لمحاورة المتسابقين نحو كرسي قرطاج، من مواصلة اللعب على أوتار "النسويّة"، في مشهد لم يخل، وفق البعض، من توظيف سياسي ممجوج لقضايا المرأة بهدف استقطاب المرأة الناخبة والاستئثار بـكتلة "المليون إمرأة" التي رجّحت كفّة الرئيس السابق الباجي قائد السبسي في رئاسيّات 2014.
لم يعد سبقا الوقوف على نضالات المرأة التونسيّة من أجل فرض حقوقها الاجتماعية والسياسيّة بعيدا عن وصاية السلطة الأبويّة أو خيمة تأميم التحدّث باسمها بغاية استثمار نجاحاتها المشرّفة لصالح منافع انتخابيّة ضيقة،
فإلى أي حد يعتبر الحضور النسوي في انتخابات الرئاسة السابقة لآوانها، يتماشى وطموح الحركة الإصلاحية التونسية منذ بداية القرن 19، التي رأت في قضيتها مقوّما من مقوّمات المشروع التحديثي برمّته على حد وصف الشيخ عبد العزيز الثعالبي؟ وهل يخفي هذا الحضور المتواضع محاولة لإشغال المرأة التونسية في أتون قضايا اجتماعية واقتصاديّة أكثر واقعيّة من تمثيليتها السياسية؟
أليس من الإجحاف أن تظلّ امرأة الحدّاد، التي وصفها بكونها ركنا للعمران ونصف الرّجل في الحياة، وهي من بعثت في صدر المسلم البدوي "روحا جبّارا هو سرّ نجاح مدنيّته بعد أن اعتاد الطاعة لنفسيات قائمة، وعادات مرّت على عصر تخلقه السنون والأحقاب"، رهينة العقلية الذكورية بعد حوالي قرن من صدور كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، أم ذهب بنا التيار الجارف إلى مصبّه؟
مكسب الإرث النضالي والتشريعي
جمال الدين دراويل، أستاذ مساعد في الحضارة الحديثة بجامعة قرطاج، يؤكّد في حديث لـ "عربي21"، أنّ المرأة مثّلت قضيّة مركزيّة لدى امتدادات الإصلاح في بداية القرن العشرين وبالخصوص لدى الشيخين محمد النخلي القصراوي وتلميذه الطّاهر الحدّاد والعلاّمة محمد الطّاهر بن عاشور، إذ اعتبر هؤلاء أنّ دخول المرأة إلى معترك النضال الاجتماعي والسياسي مع الرجل سواء بسواء يعتبر ممرّا إجباريّا لتقدّم المجتمع العربي الاسلامي وتونس مثالا له، مضيفا أنّ خمائر هذا الوعي بدأت مع مصلحي القرن 19 مع أحمد ابن أبي الضياف ومحمّد السنوسي.
ويرجع دراويل، في كتابه "النخبة والحريّة: تونس في الثلث الأوّل من القرن العشرين"، هذا الوعي لدى الإصلاحية التونسية والعربيّة عموما منذ القرن 19 إلى تأسّيها بالتجربة التاريخية الأوروبية التي مثّل فيها الإصلاح الديني، الذي تزعمه لوثر وكلفن في القرن 16، جسرا لولوج الحداثة الغربية، وهو ما أكّده ماكس فيبر في كتابه "الأخلاق البروتستانية والروح الرّأسمالية"(1909).
امرأتنا بين المشرق والمغرب
وفي ذات السياق، أشار دراويل إلى أنه رغم السبق النظري للمشارقة فيما يتعلّق بتحرير المرأة والمتمثل أساسا في كتابي قاسم أمين، "تحرير المرأة" (1899) و"المرأة الجديدة" منذ بداية القرن 20، فإن "تنزيل النضال النسوي من المجال النظري إلى المجال الاجتماعي العملي تم في تونس من خلال تأسيس الاتحاد النسائي الإسلامي يوم 17 أيار (مايو) 1936 على يد "هيئة نسائيّة تكوّنت من بشيرة بن مراد كريمة الشيخ محمّد الصّالح بن مراد الذي أقام "الحداد على امرأة الحدّاد" والسيّدة القروي ونبيهة بن ميلاد"، وفق ما ورد في كتابه المذكور أعلاه.
هذا النضال الجمعوي والاجتماعي تبعه إنجاز تشريعي تمثّل في سن الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة للأمر عدد 13 آب (أغسطس) 1956 والمعروف بمجلّة الأحوال الشخصيّة السارية المفعول لحد اليوم مع بعض التنقيحات الطفيفة.
واستنادا لنفس الكتاب فقد كان تأسيس الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي سنة 1936 "ثمرة من ثمار هذه البذور السابقة، ومقدّمة فتحت للحركة النسائيّة آفاقا جديدة تمثّلت في تأسيس"اتحاد نساء القطر التونسي" في آذار (مارس) 1944، ونادي الفتاة التونسية في تشرين أول (أكتوبر) 1954 وصولا إلى بعث "الاتحاد القومي النسائي التونسي" في كانون ثاني (يناير) 1956 ليكون إحدى ركائز النضال الوطني من أجل الاستقلال".
كما كرّس دستور 1 حزيران (يونيو) 1959 المساواة بين المرأة والرجل والذي تدعّم بالقوانين الانتخابية اللاحقة للثورة والتي كرّست التناصف العمودي في الانتخابات التشريعيّة لسنتي 2011 و2014 وآخرها إقرار مبدأ التناصف العمودي والأفقي في القائمات المترشحة للانتخابات البلديّة من خلال تعديل الفصل 49 من القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 المؤرخ في 26 أيار (مايو) 2014 المتعلق بالانتخابات والاستفتاء، والذي طبّق في انتخابات المجالس المحليّة لسنة 2018.
زيف الخطاب النخبوي المنتصر للمرأة
الدكتور محسن السوداني، أستاذ مبرّز في الفلسفة، يرى في حديث مع "عربي21"، أنه من الأهميّة بمكان الوقوف عند آخر الإحصائيات الطبيّة المنشورة على موقع "نسمة" في كاون ثاني (يناير) 2018 والتي تفيد تأكيد منصف حمدون، رئيس قسم الطب الشرعي بمستشفى شارل نيكول ورئيس وحدة الإنجاد، أن عدد ضحايا الاعتداء الجنسي المتوافدين على وحدة الإنجاد بمستشفى شارل نيكول لوحده، في الفترة الممتدة بين نيسان (أبريل) 2016 ونيسان (أبريل) 2017، قد فاق 800 حالة. كذلك المسح الميداني الذي أنجزه الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري خلال سنة 2008، انطلاقا من عيّنة تمثيليّة شملت 3873 امرأة ضمن الشريحة العمرية 18 ـ 64 سنة، والذي بيّن أنّ 47.6 % من النساء في تونس تعرّضن لأحد أنواع العنف على الأقل مرّة واحدة طيلة حياتهنّ، %31.7 من النساء تعرّضن للعنف الجسدي، %28,9 من النساء تعرّضن للعنف النّفسي، %15.7 من النساء تعرّضن للعنف الجنسي، %7.1 من النساء تعرّضن للعنف الاقتصادي، فضلا عن الدراسات التي تشير إلى وقوع ما يقرب عن 50 حالة طلاق يوميا.
واعتبر السوداني أن هذه الاحصائيات تعرّي زيف الخطاب النخبوي المنتصر للمرأة، وهي تحمل جملة من الدّلالات لعلّ أهمّها: "الفشل الذريع لترسانة القوانين التي تستهدف حماية المرأة وإفلاس المرجعيّة الفكريّة والعقم القيمي الحاد للتربة الثقافية التي أنبتت تلك التشريعات، فالقوانين ترجمة تشريعيّة لرؤية فلسفيّة أو فكريّة".
وأضاف: "إنّ القيم التي أنتجتها ما تسمى بثقافة الحداثة التي صدرت عنها تلك القوانين حوّلت المراة من قيمة إلى موضوع، من إبداع فني إلهي إلى شيء للمتعة، وهو ما يجعل من مناقشة موضوع المشاركة السياسية للمرأة في المحطّة الرئاسيّة دون استحضار الواقع الاجتماعي والاقتصادي المتردّي للمرأة ترف فكري لا غير".
أغلال العقليّة الذّكوريّة
صلاح الدين الجورشي، الكاتب والصحفي وعضو لجنة الحريات الفرديّة والمساواة المعيّنة من قبل الرئيس السابق الباجي قائد السبسي، أكّد لـ "عربي21"، على ضرورة التنويه بغياب أية موانع قانونية أو دستوريّة تحول دون مشاركة المرأة التونسية أو ترشحها للانتخابات الرئاسية، وهو ما يمثّل في حدّ ذاته إحدى علامات الاستثناء التونسي، لافتا النظر إلى وجود فجوة مخيبة للانتظار بين المنجزين القانوني والتشريعي وبين واقع استعداد المرأة ومدى انخراطها في الترشّح للرئاسيّة السابقة لأوانها المزمع تنظيمها يوم 15 أيلول (سبتمبر) الجاري، على عكس الانتخابات البلديّة والتشريعيّة التي فرض فيها التناصف بنصّ القانون.
وعن أسباب هذه الفجوة، أعاد الجورشي هذا التخلّف عن المشاركة الرئاسيّة إلى غياب التجربة وإلى اعتبارات تاريخيّة وأخرى تخصّ المجتمع النسائي وربّما شكّ المرأة في قدراتها السياسيّة، وهو ما يمثّل عنصر ضعف في أدوار المرأة السياسيّة.
درّة محفوظ، أستاذة علم الاجتماع بالجامعة التونسية، وفي تصريح لـ "عربي21"، اعتبرت من جهتها أن حضور المرأة في الانتخابات كناخبة يبقى محترما وهو في تطوّر مطّرد ومن المهم الإشارة إلى أنّ عدد الناخبات بلغ 2.446.393 ناخبة أي ما يساوي 46.10 بالمائة من جملة الناخبين المسجّلين وفق ما أعلنه تقرير الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات.
كما لفتت محفوظ النظر لدور القانون عدد 7 لسنة 2017، المتعلق بالانتخابات والاستفتاء، في فرض التناصف العمودي والأفقي في القائمات الانتخابيّة وهو ما انعكس إيجابيا على حضور المرأة في المجالس البلديّة المنتخبة سنة 2018، وفيما يتعلّق بتدنّي نسبة مشاركة النساء في الرئاسيّة، ترى محفوظ أنّ مردّ ذلك هو هيمنة العقلية الأبوية والذكوريّة في المجتمع.
المرأة في مرمى التوظيف السياسي
صلاح الدين الجورشي اعتبر أن مسألة التوظيف مسألة قديمة ارتبطت بمباشرة بورقيبة لما أسماه بمشروع تحرير المرأة منذ الاستقلال. وقد انغمس هو ورجالات السلطة بشكل كبير في توظيف المرأة لصالح الدولة المركزيّة وهو ما أدّى إلى انتقاد الجمعيات والمبادرات النسوية لهذا التوظيف السلبي لملف المرأة، مستشهدا بدور المنظمة التونسيّة للنساء الديمقراطيات في فضح هذا التوظيف السياسي منذ ثمانينيات القرن الماضي.
من جهته، نبّه السوداني في حديثه لـ "عربي21"، إلى أنّ الخطاب السياسي، والانتخابي على وجه الخصوص، لازال يستدعى المرأة كموضوع مثير ومستقطب للاستثمار الانتخابي لا غير، وأنّ السياسي ظلّ يقرع خلال المحطات الانتخابية المتتالية على هذا المدخل لأنه: "مُدِرٌّ للعطف النسوي ولأصوات من تاهت بهن الدروب في البحث عن مأوى للمعنى".
وأضاف في ذات السياق: "إن جُلّ السياسيين اليوم في تونس لا يرون ما انتهت إليه المرأة من ضياع بعد أن دُكّت كل حصون المعنى ومأوى القيمة التي كانت تحميها، لقد هجّرتها ثقافة الاستهلاك والاستثمار المتضخم في الجسد من أنساق المعنى إلى عصر الفراغ". استنزاف متواصل انتهى بها الى ما تكشف عنه تلك الأرقام.
وفيما يتعلّق بتقييم دور الإعلام ومدى طرحه للقضايا الممثلّة للمشاغل الفعليّة للناخبة التونسيّة، نوّه الجورشي إلى وجود بعض وسائل الإعلام التي عالجت قضايا المرأة الفعليّة مثل المرأة الريفية ودور المرأة في التنشئة والعنف الأسري و لكن في الزمن الانتخابي المرأة لم تلق حظّها وهي تتحمّل جزءا من المسؤوليّة، وفق تقديره.
لئن راكمت المرأة التونسيّة تضحيات جمّة في سبيل فرض حقوقها المدنيّة والسياسية، طوال قرن كامل من تجارب نضاليّة تترَى، فإنّ البعض يرى أن فتح الثقوب في هذا السد العالي من المكبّلات الاجتماعيّة والنفسية المعيقة للممارسة السياسية، يستوجب قبل كلّ شيء النهوض بواقعها الاقتصادي المتردّي، حتى لا تغدوَ فريسة لدى سماسرة السياسة والانتخابات، وأنّى لعاملات الفلاحة اللواتي يركبن شاحنات الموت في سيدي بوزيد والقيروان أن يفكّرن في ركوب قطار الرئاسيات!
*صحفي وإعلامي تونسي
التصوّف في تونس.. معراج إلى الله أم مدارج للسلطة والجاه؟
الرئاسيات التونسية تعيد سؤال السلطة إلى الواجهة الفكرية
جبهة التحرير الجزائرية.. من القيادة إلى خطر العزل السياسي