يواجه
الفلسطينيون مجددا خطر تعميق الجرح الداخلي الناجم عن الإصابات البليغة التي حلت بوحدة الجسد الفلسطيني والمشروع الوطني؛ على مدار عقدين من الزمن، ما ينذر باستمرار النزيف في
الضفة الغربية وقطاع
غزة، وتأثر باقي الأعضاء في القدس والشتات الفلسطيني.
المتغير الأبرز الذي نكأ الجراح مجددا كان قرار الرئيس محمود عباس التوجه لعقد انتخابات تشريعية فقط، متجاهلا الرئاسية والمجلس الوطني، باعتبار الخطوة حلا حاسما، وبديلا عن إتمام المصالحة، بالتزامن مع رفض حركة
فتح مبادرة الفصائل الثمانية التي قدمت وثيقة لإنهاء الانقسام؛ بناء على مرجعيات اتفاقيات المصالحة السابقة.
قرار عباس بحسم الأزمة الفلسطينية عبر الانتخابات دون توافق وطني؛ يتزامن مع تراجع السلطة في رام الله عن رفض استلام أموال المقاصة التي يتحكم بها الاحتلال، حيث استلمت مؤخرا مليارا و800 مليون شيكل، دون أن تتنازل حكومة الاحتلال عن خصم مخصصات عائلات الشهداء والأسرى، كما جرى التوافق على إحياء اللجان الفنية المشتركة المرتبطة باتفاق باريس الاقتصادي.
الغريب في توجهات عباس الأخيرة محاولته إلباس الجسد الفلسطيني الملوث بوحل الانقسام ثوب الانتخابات، رغم أن رائحة الانقسام ستبقى تزكم الأنوف، ولا يمكن إزالتها بديمقراطية مزيفة.
ورغم إخفاء قيادة السلطة السبب الحقيقي للمناورة الانتخابية في هذه البيئة الملتبسة، إلا أن مراجعة سريعة للخطوات السابقة، يتضح أنها انتقلت من سلسلة العقوبات وإعلان غزة إقليما متمردا، إلى متاهة الانتخابات.
ويمكن رصد العديد من الشواهد على الإجراءات الانفصالية التي مررتها قيادة المقاطعة لتفكيك السلطة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وفرضها كواقع من خلال "قوننة" ومأسسة للانفصال على الصعيد السياسي والمالي والإداري.
فمنذ إعلان محمود عباس في البحرين، في نيسان/ أبريل 2017، أن قيادة السلطة ستتخذ خطوات وصفها بأنها "غير مسبوقة" ضد ما اعتبرها "حالة الانقسام في قطاع غزة"، نفذت السلطة خطة متدحرجة للانفصال الإداري عن قطاع غزة، اتخذت شكل العقوبات خلال الفترة الماضية ولا يزال جزء كبير منها ساري المفعول، أبرزها قطع الرواتب والتقاعد المبكر والخصومات التي وصلت إلى 50 في المئة. وقد كشف تقرير صادر عن البنك الدولي في نيسان/ أبريل 2019؛ أن السلطة الفلسطينية قلّصت 23 ألفا من موظفي القطاع العام في محافظات قطاع غزة، مقابل 500 فقط في محافظات الضفة الغربية المحتلّة.
وإداريا، تقتصر العلاقات الحكومية بين غزة والضفة على بعض القنوات القائمة على التنسيق في حده الأدنى، خصوصا في مجالات الصحة والتعليم، الى جانب ارتباط إجباري لاشتراط الاتحاد الاوروبي تقديم المنح والتمويل لوزارات حيوية، مثل الشؤون الاجتماعية.
في الشق السياسي، ورغم وجود موقف وطني جماعي يقضي بالخروج من المأزق الفلسطيني الحالي عبر مبادرة الفصائل الثمانية، إلا أن دعوة عباس للانتخابات قطعت الطريق عليها، واستهدفت إحباط المبادرة، واختزال حل أزمة المشروع الوطني في الانتخابات التشريعية.
معرفة عباس المسبقة برفض غالبية القوى الفلسطينية فرض انتخابات مجتزئة، يلقي بظلال من الشك حول نواياه الخفية، وعند النبش في عقل الرئيس واستقراء خطة الدرج التي اخرجتها قيادة السلطة، يتضح أنها تعتمد الخيارات التالية:
تقديم الانتخابات على المصالحة في هذا التوقيت يهدف الى تحميل إسرائيل وحماس مسؤولية أزمات النظام السياسي الفلسطيني، وإعادة إخراج المصالحة على أسس جديدة تخضع لاعتبارات الأمر الواقع الذي تفرضه لعبة الانتخابات، لا مرجعيات الاتفاقيات السابقة.
كما تراهن السلطة في رام الله على فيتو
حماس بشأن الانتخابات المجتزأة، وسيحرص الرئيس على إثارة مواجهة حول الشرعيات والديمقراطية، وتأكيد الادعاء أن غزة مختطفة. وفي حال أصر على المضي في إجراء الانتخابات، سيجتهد لابتداع طرق يؤمن من خلالها مشاركة رمزية للفلسطينيين في القدس وغزة.
ومن بين الخيارات الأخرى التي يمكن أن تلجأ لها حركة فتح لحشر حماس والفصائل في الزاوية، اقتراح جدول زمني يتضمن مواعيد لاحقة لإجراء انتخابات رئاسية، سواء طالت المدة أو قصرت.
لكن في المحصلة تبقى المعضلة الأساسية التي ستواجه عباس الموقف الجماعي الرافض إجراء الانتخابات"التشريعية" حصرا، وسيفتقد أبو مازن الغطاء الوطني، متمثلا بفصائل داخل منظمة التحرير وخارجها. ولن يقتصر الرفض على حماس، ما سيضع عباس أمام تحديات، أخطرها المضي في انتخابات تؤدي إلى فصل الضفة عن القطاع، واعتبار الضفة الغربية مشروع الدولة، وغزة إقليما متمردا، والتسليم بخضوع القدس للاحتلال، مع الاكتفاء بصناديق انتخابية في بعض أحياء المدينة.
السيناريو الأخير يتوافق مع قبول السلطة استئناف قبول دفعات المقاصة، وحرصها على استقرار المنظومة الإدارية والمالية والأمنية في الضفة الغربية، وعدم تنفيذ أي من وعود وقرارات عباس والمجلس المركزي بشأن وقف العمل بالاتفاقيات مع الاحتلال التي تكرر التلويح بها منذ العام 2015.
إن تمرير الانتخابات في الضفة، لن يتم إلا بقبول إسرائيلي- أمريكي، حال ضمن الطرفان تعزيز الانفصال عن غزة. ومغامرة من هذا القبيل ليس من السهل أن تنفذ دون ضوء أخضر إقليمي، خصوصا من الدول الأكثر التصاقا بالملف الفلسطيني، مثل مصر والأردن والسعودية.
خطوات الانفصال ستعمل على تركيز السلطة في الضفة الغربية، وهي متصلة بقناعة عباس أنه لن تكون هناك تسوية سياسية (مع "إسرائيل" التي سيطر عليها اليمين المتطرف) تستدعي أن يكون رئيسا للشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، ولا يمكن أن يسمح أن تكون غزة هي نواة كيانية فلسطينية.
في المقابل، فإن شرعنة الانفصال عبر بوابة الانتخابات، تعني إعادة تدوير الانقسام عبر الحسم السياسي لكيان السلطة.. انفصال يزيد الأعباء الإدارية والمالية على حماس، في ظل عدم وجود أي إطار وطني أو إقليمي أو دولي يجرؤ على تحمل المسؤولية في إدارة القطاع، ما سيجعل الحركة مقيدة بالاعتماد على الاحتلال ومصر، عبر التهدئة والتصعيد، للإبقاء على شرايين الاقتصاد والتسهيلات الإنسانية مفتوحة، وستتحمل القضية الفلسطينية عبئا جديدا، ليس من أجل النضال لإنهاء الاحتلال، ولا وقف الانقسام فقط، بل نضال لاستعادة الوحدة بعد الانفصال.