الإبداعات الفنية واللوحات الغنائية والتعبيرية فضلا عن الأفكار التي يتم التعبير عنها داخل ملاعب كرة القدم المغربية من قبل "الألتراس" أضحت ظاهرة فريدة وغير مسبوقة، واستأثرت باهتمام كبريات القنوات الفضائية والصحف الدولية فضلا عن وسائل التواصل الاجتماعي، حتى إنها ساهمت في نقل بعض نوادي كرة القدم المغربية إلى مصاف النوادي العالمية.
أغاني كل من نادي الوداد ونادي الرجاء البيضاويين، واللوحات التعبيرية "التيفوات" التي يفتتح بها الجمهور المقابلة، والمضامين السياسية التي تحملها، أصبحت تطرح أسئلة عميقة عن التحولات الفكرية والسياسية التي تعرفها النخب المسيرة للجماهير المشجعة للنوادي الكروية، بل أصبحت تضع بعض الأطروحات في محك الاختبار، وتحكم على أخرى باستنفاذ الغرض، فكرة القدم التي كانت بالأمس، لا تغادر حقل الفرجة بالمعنى الرياضي، وتدخل ضمن دائرة الإلهاء والتحكم السياسي، أضحت اليوم تدخل في معادلات معقدة، يدخل التسيس منطقها، وتتشوش الصورة على وظيفة هذه الظاهرة التي أخذت شكلا احتجاجيا جديدا ومنظما.
جدل كبير صار يثار في المغرب بين أنصار هذه النوادي التي تتنافس اليوم حول التعبير عن أقوى المضامين الاحتجاجية، وتقديم أقوى اللوحات الإبداعية، والاجتهاد في بلورة الأفكار التي يكون أثرها بالغا ورسائلها أكثر دلالة.
والمثير للانتباه أن الأمر لم يعد يقتصر على الناديين البيضاويين العريقين (الرجاء والوداد)، فقد دخل نادي أنصار اتحاد طنجة هو الآخر في دائرة التنافس، بأغنية تحمل مضامين احتجاجية سياسية قوية، فضلا عن التعبير عن التضامن مع القضية الفلسطينية في أرقى صوره والتعبير عن حب الرسول الكريم.
على أن الجدل، لم يبق حبيس التنافس بين أنصار هذه الفرق، ومن يملك أفضل القدرات التعبيرية، ومن يتجدر في الدفاع عن قضايا المقهورين، ومن يسابق الخطو نحو التضامن مع القضية الفلسطينية بأبدع صورة وأعمق فكرة، بل انتقل إلى تحليل إشارات هذه الإبداعات والمضامين، ورسائلها، وما تعنيه التحولات التي تشكلها النخب المسيرة لهذه الفرق الرياضية العريقة.
مجرد تنافس رياضي أم موجة احتجاج سياسي جديد
يرى عبد المنعم بيدوي، الناشط السياسي والفايسبوكي، والمناصر الشرس لفريق الوداد البيضاوي، في تصريح لـ"عربي21"، أن ما يميز الفريق في العقد الأخير، توفره على رابطة مشجعين قوية ومنسجمة، وأنها تحرص على تقديم إبداعات معبرة في كل المقابلات التي يخوضها الفريق، تظهر في الأناشيد واللوحات الاستعراضية لاسيما في الديربي (مقابلة تجمعه مع نادي الرجاء البيضاوي)، وأنها تجتهد فكريا في تقديم رسائلها ضد خصومها الرياضيين لاسيما نادي الرجاء البيضاوي، أو رسائلها السياسية، وتتنوع مضامينها بين التغني بتاريخ الفريق وأمجاده، وبين التعبير عن المعاناة الاجتماعية، فضلا عن رسائل الاحتجاج السياسي.
ويعتبر البيدوي، أن أغاني النادي في السنوات الأخيرة أصبح فيها حضور ثقيل للقضايا السياسية لاسيما أغنية 2019 المعنونة بـ "قلبي حزين"، إذ تتناول قضية البطالة والهجرة السرية والفساد في الدولة وعدم المساواة في توزيع الثروة والصحة والتعليم، ويرى البيدوي أن أغاني هذه الرابطة أصبحت أشبه ما تكون ببلاغ سياسي لحزب يضع رجله في المعارضة.
أما حسن حمورو، الكاتب والناشط السياسي، والمناصر الشرس لفريق الرجاء الرياضي، فيعتبر في تصريح لـ"عربي21"، أن ما يميز فريق الرجاء البيضاوي هو أنه مهموم ومسكون بصناعة الوعي والتفاعل مع قضايا الوطن والأمة. ويرى أن شعارات وأغاني الألتراس، وفي مقدمتها رابطة مشجعي نادي الرجاء البيضاوي، عرفت تحولا في المضمون، وذلك مباشرة بعد قرار حلها ومنع أنشطتها سنة 2016، وأن الانعطافة حصلت لجهة زيادة جرعة في المضمون السياسي والاجتماعي، سواء من خلال الكلمات أو من خلال اللوحات التعبيرية (التيفو) وبخلفيات فكرية وسياسية. ويعتبر في تحليله للظاهرة، أنه لا يمكن فصل هذا التحول عن التحولات الاجتماعية التي عرفها المغرب، وأن ملاعب كرة القدم ليست في المحصلة سوى منصة للتعبير وفضاء مشترك للتنسيق وأيضا مجالا للهروب من مساحات الضبط والرقابة.
من جهته، سجل عزيز الصمدي، الفاعل السياسي، وأحد أبرز أنصار نادي اتحاد طنجة، في حديث لـ"عربي21"، دخول رابطة مشجعي فريقه إلى غمرة التنافس التعبيري داخل ملاعب كرة القدم، ويرصد حصول تطور ملحوظ في إدماج الأبعاد السياسية والوطنية في شعارات جمهور فريقه، انطلاقا من تقديم لوحات تعبيرية على المدرجات، والتركيز على المظاهر الاحتفالية والبعد الفرجوي باعتباره الهدف الأساسي من اللعبة، ووصولا إلى التعبير عن القضايا السياسية وقضايا الأمة (مساندة القضية الفلسطينية)، والقضايا الدينية (نصرة الرسول الكريم).
ويعتبر هذا التحول مؤشرا على قدرة هذه الفصائل التشجيعية على الربط بين نجاح فريقها المفضل، وتحسين الوضع العام للبلاد، بما يرمز إلى حصول وعي متنامي ومتصاعد يوما عن يوم بداخلها، وذهب عزيز الصمدي، في تحليله حد القول بأن الملاعب الرياضية في المغرب أضحت تعرف ربيعا أو هي ثورة ملاعب على حد تعبيره، إذ أضحت الملاعب حقلا للتنفيس عن حالة الاحتقان الاجتماعي والاختناق السياسي بالبلد.
أما، المهدي الدباغ، الخبير في مجال المعلوميات بألمانيا والمختص في تحليل الصور التعبيرية، فقد اعتبر في تصريح لـ"عربي21"، أن الألتراس يشكلون فئة الشباب الذين ينتمون للطبقة المتوسطة والفقيرة، ويقطنون المدن، وحصلوا على شهادات متوسطة وعليا، ويعانون من سوء الأوضاع الاجتماعية ومن البطالة، ولذلك اختاروا الملاعب من أجل التعبير عن معاناتهم والمطالبة بتحسين أوضاعهم الاجتماعية وتأمين مستقبلهم. ويرى الدباغ أن اللوحات التعبيرية التي تجتهد في استلهام الماضي، والتقاط الإشارات من أعمال إبداعية عالمية في الخمسينيات مثل استلهام مسرحية la cantatrice chauve، تعكس طبيعة النخب الفكرية التي تقوم خلف هذه الجماهير المشجعة ومستوى تعلميها وقدراتها الإبداعية.
واجهة للتعبير الاحتجاجي أم تعبير عن سقوط أطروحة التحكم
الملفت للانتباه، أنه مع اختلاف النخب التي تقف وراء هذه النوادي، فإنها تقدم توصيفا واحدا لطبيعتها ووظيفتها: تعبير احتجاجي بمضمون اجتماعي وسياسي، يستثمر منصة التعبير التي توفرها مدرجات الملاعب لبث المعاناة ونقد الأوضاع، وتوجيه رسائل للمسؤولين، ونقد أنظمة الوساطة السياسية، ممثلة في الأحزاب السياسية والمجتمع المدني.
لكن هذا التوصيف المشترك، لا يخفي نقاط جدل حاد حول سقف هذه التعبيرات الاحتجاجية، وهل هي مجرد تنفيس سياسي على هامش الملعب، أم أنها أصبحت هي المركز في حين أصبح اللعبة في الهامش.
فالأستاذ رشيد الشريت، الباحث وكاتب الرأي بجريدة المساء، يؤكد في تصريح لـ"عربي21"، أن ما يحدث في ملاعب كرة القدم، يمثل حالة من التمذهب الكروي أو الإيديولوجية الكروية، حيث أصبح الفريق مذهبا وإيديولوجية، وأنه انعكاس لحالة الانتماءات الجديدة لاسيما بعد أفول نجم المنظومات السياسية والاجتماعية الكلاسيكية. فعوض الانتماء والولاء للقبيلة والعشيرة أو الولاءات السياسية للحزب وللإيديولوجية، أصبحنا أمام ولاءات جديدة. بل يذهب أكثر من ذلك، فيعتبر أن مركز الثقل انتقل بسبب الألتراس من الملعب إلى المدرجات، فلم يعد الفريق هو من يصنع الحدث، بل صار المتفرج متفوقا على اللاعب! فلم يتمكن فريق الرجاء أن يصبح فريقا عالميا (بمفهوم العالمية) حتى أبدع ألتراس الفريق أغنيته العالمية: "في بلادي وظلموني".
ويلفت رشيد شريت الانتباه إلى مفارقة أخرى، ويسجل أنه لأول مرة، يقود الشباب وغالبيتهم منقطعين عن الدراسة وبمستوى تعليمي متواضع من هم أعلى منهم ثقافة وحتى مكانة اجتماعية، ويعتبر أن هذا التحول من مجرد الفرجة إلى ما يشبه الإيديولوجية، واكبه "صناعة طقوس" خاصة، سواء طقوس فردية كالتشجيع ومرافقة الفريق أينما حل وارتحل وارتداء القميص والاصطباغ بألوانه إلى طقوس جماعية، وعلى رأسها الشعارات والرسومات واللوحات التعبيرية.
أما الدكتور سلمان بونعمان، الباحث في العلوم السياسية، فيصف في تصريح لـ"عربي21"، ما تسجله مدرجات الملاعب بكونه حالة من التعبير الاحتجاجي الشبابي خارج الأطر التقليدية، وأن ذلك يعكس وعيا جديدا، يخرج من الألتراس من التوظيف السلطوي إلى أداء وظيفة نقدية واحتجاجية تعكس وعيا بالظلم والتهميش والإقصاء. ويعتبر بونعمان، أن هذه التحولات، تؤشر على أن الوعي لدى الألتراس تجاوز مرحلة الهوس المرضي بالفريق، إلى صناعة وعي بواقع الظلم والاستبداد، وبث رسائل سياسية قوية. ويؤكد بونعمان أن الألتراس أصبحت تؤدي وظيفة التعبئة السياسية غير الحزبية، وأنها أضحت تمثل شكلا من اشكال الاحتجاج على منظومة الوساطات التي فشلت في الإدماج والإقناع.
وخلافا لهذا الرأي، يعتبر الدكتور محمد جبرون، الكاتب والباحث، في تصريح لـ"عربي21"، أن التحولات التي تعرفها مدرجات الملاعب من بث خطاب احتجاجي بمضمون اجتماعي وسياسي، تعكس في الجوهر ذات التحولات التي عرفها المجتمع، وأن التحولات السوسيولوجية التي عرفتها المدن، تفسير التحول الذي حصل في النخب التي تسير الألتراس، فهذه النخب، يضيف جبرون، تنحدر من المدن وتدرجت في مستويات التعليم، وأن تعبيراتها الاحتجاجية لا تنفصل عن التعبيرات الاحتجاجية التي تتمخض داخل المجتمع، وأن ما يميزها أنها وجدت منصة وفضاءا (مدرجات الملاعب) للتعبير عن تطلعاتها وطموحاتها الاجتماعية والسياسية. ومع تأكيد الأستاذ امحمد جبرون، على أن شعارات الألتراس تكشف تضخم حالة عدم الثقة في المؤسسات، إلا أنه لا يرى في تعبيراتها، ما يمكن أن يشكل بديلا عن أنظمة الوساطة، ولا يعتبر هذه التعبيرات الاحتجاجية ومضمونها مؤشرا على خروجها من دائرة آليات الضبط السياسي، فاللعبة في نظره قائمة، ولا تزال كرة القدم تقوم بنفس الوظيفة السياسية، وأن التحول الذي وقع لا يعدو أن يكون على هامش التنافس الكروي، ولا يؤشر بحال عن سقوط منظومة التحكم ولا تجاوزها.
ويجادل حسن حمورو في هذه القضية، ويرى أن تطور شعارات الألتراس هي تعبير عن نسف أطروحة توظيف كرة القدم في إبعاد الجماهير عن السياسة وعن التفاعل عن مستجداتها. أما عزيز الصمدي، فيرى أن هذه التعبيرات تمثل إعلانا عن إخفاق التنظيمات الوسيطة (لأحزاب النقابات..) في القيام بدورها في تأطير الشباب. في حين، يعتبر المهدي الدباغ أن مضمون هذه التعبيرات يلقي مسؤولية ثقيلة على صانع القرار، إذ أصبح من الواجب عليه احترام الإرادة الشعبية وترجمة سياسات وإجراءات تخفف من الاحتقان الاجتماعي. أما عبد المنعم البيدوري، فيرى أن هذه التعبيرات تؤشر على ارتفاع منسوب عدم الثقة في المؤسسات وفي أنظمة الوساطة، وأن الألتراس أصبح أقوى بكثير من جل مؤسسات الوساطة وأصبح يقوم بدور أكبر في تأطير الشباب وإيصال صوته، وأن الملاعب بفضل هذه الألتراس أصبحت مسيسة بشكل غير مسبوق.
هل ينجح قوميو وإسلاميو تونس في تجاوز خلافات الماضي؟
"النوفمبرية" في الجزائر.. صراع سياسي بخلفية فكرية
حملات النظافة في تونس.. فعل ثقافي بغطاء اجتماعي (1 من 2)