أتم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان زيارة إلى قطر، على رأس وفد رفيع، بمناسبة الاجتماع الخامس للجنة الاستراتيجية العليا للبلدين، والتي تهدف إلى رفع مستوى التعاون والتنسيق بينهما في مختلف المجالات. وهي اللجنة التي أبرمت حتى اليوم عشرات الاتفاقات بين مختلف الوزارات المتماثلة في الجانبين، وصلت إلى 56 مع الاجتماع الأخير.
يؤكد الاجتماع المحافظ على دوريته على متانة العلاقات بين الطرفين، والتي أرادا تطويرها لتكون استراتيجية من نوع مختلف في الإقليم، وقد أثبت كل منهما للآخر على خصوصية علاقته معه في عدة محطات حساسة، مثل المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا صيف 2016 والأزمة الخليجية وحصار قطر صيف 2017.
لغة الأرقام واضحة في العلاقات بين أنقرة والدوحة، فإضافة إلى الاجتماع الخامس للجنة الاستشارية العليا، تعد هذه القمة الـ26 من نوعها بين الرئيس التركي والأمير القطري خلال خمس سنوات، وهي وتيرة مرتفعة تدلل على مدى حرص الطرفين على تمتين العلاقات البينية وتطويرها. يضاف لذلك العلاقة الشخصية الحميمية بين الرئيس التركي والأمير القطري، والتي تتبدى في ثنايا أحاديثهما.
يشي كل ذلك بأن القمة التركية-القطرية الأخيرة كانت قائمة بذاتها، ومخططا لها مسبقاً بناء على أسس العلاقة الثنائية، إلا أن ذلك لا ينفي أنها (أي القمة) اكتسبت أهمية إضافية، وقدمت رسائل متعددة بسبب ما تزامنت معه من سياقات وتطورات في المنطقة.
فالزيارة تأتي في ظل أحاديث عن قرب مصالحة خليجية-خليجية ما زالت تفاصيلها ومدى صحتها غامضين، وأولى بوادرها مشاركة دول الحصار/ المقاطعة في البطولة الخليجية، لتكون كرة القدم في ما يبدو أول إرهاصات حلحلة التوتر بين الطرفين.
الزيارة تأتي في ظل أحاديث عن قرب مصالحة خليجية- خليجية ما زالت تفاصيلها ومدى صحتها غامضين
كما أن الزيارة تمت في ظل ارتفاع منسوب التوتر بين
تركيا والإمارات العربية المتحدة؛ أولاً بسبب مسلسل "
ممالك النار" الذي اعتبرته أوساط تركية استهدافاً لتركيا وتشويهاً لتاريخها العثماني من خلال استخدام الفن كأداة في السياسة بمال إماراتي ودراما مصرية، وثانياً من خلال "المذكرة الحمراء" التي أصدرتها السلطات التركية
لتوقيف محمد دحلان، والتي تستهدف دوره الإقليمي كمستشار لولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، كما تستهدف أحلامه المستقبلية لخلافة محمود عباس على رأس السلطة الفلسطينية، وهو المعنى الذي أشار له وزير الخارجية التركية مولود تشاووش أوغلو قبل أيام، حين قال إن بعض الدول الإقليمية تسعى لوضعه في سدة الرئاسة الفلسطينية.
بهذا المعنى، تتضمن زيارة أردوغان والقمة التركية-القطرية الأخيرة وما أبرم بين الجانبين من اتفاقات؛ رسائل واضحة للأطراف الخليجية المحاصرة أو المقاطعة للدوحة والمستهدفة لأنقرة في المنطقة في عدد من القضايا والدول، بأن العلاقات مع الدوحة في أحسن حال وأنها تتعمق أكثر فأكثر، وأن كلا الطرفين ليس وحيداً في مواجهة هذا التحالف الخليجي/ الإقليمي.
لكن من زاوية أخرى، يدرك أي متابع أن أحاديث المصالحة الخليجية المرتقبة قد تكون مقلقة ضمنياً لتركيا، باعتبار أن أي مصالحة ستتضمن بالضرورة تنازلات من الطرفين، وأن علاقات قطر مع أنقرة
وقاعدة الأخيرة العسكرية على أراضيها؛ كانتا ضمن مطالب فك الحصار الـ13.
يدرك أي متابع أن أحاديث المصالحة الخليجية المرتقبة قد تكون مقلقة ضمنياً لتركيا، باعتبار أن أي مصالحة ستتضمن بالضرورة تنازلات من الطرفين
من هنا يمكن رصد دلالات إضافية لزيارة الرئيس التركي للقاعدة ولقائه بجنوده هناك، وكأنها رسالة تأكيد بالاتجاه الآخر هذه المرة بأنها (أي القاعدة) لا يمكن أن تكون ثمن التقارب الخليجي-الخليجي. بل لعله من المفيد النظر من زاوية أخرى لتصريح أردوغان من قطر؛ بأن هذه القاعدة "لحماية أمن كافة دول الخليج وليس فقط قطر"، وهو تصريح متكرر ومتناغم مع الموقف التركي التقليدي، لكنه اليوم يحمل دلالات إضافية على هامش توقعات المصالحة القريبة.
ثمة من لحظ بأن الاحتفاء القطري بأردوغان والقمة الثنائية لم يكونا هذه المرة كما كان سابقاً ولا كما كان متوقعاً، في إشارة لحرص الدوحة على عدم نسف مسار التهدئة مع جيرانها، بل إرسال رسائل طمأنة ضمنية لهم. وهو تفصيل (إن صح) يحمل دلالات عميقة لأنقرة وحسابات كثيرة متعلقة بمستقبل علاقاتها مع قطر من جهة، ومع الدول الخليجية الأخرى من جهة أخرى.
يمكن رصد دلالات إضافية لزيارة الرئيس التركي للقاعدة ولقائه بجنوده هناك، وكأنها رسالة تأكيد بالاتجاه الآخر هذه المرة بأنها (أي القاعدة) لا يمكن أن تكون ثمن التقارب الخليجي- الخليجي
ذلك أن تركيا تبدو مع أي جهد تصالحي في الخليج من ناحية مبدئية، باعتبارها دائماً حرصت على الهدوء والاستقرار ودعت إليهما، إذ هما مما يعزز فرص التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري اللذين يفيدانها كما يفيدان بقية الأطراف. إضافة لذلك، تدرك أنقرة أن علاقاتها مع بعض الدول الخليجية قد تراجعت أكثر بعد موقفها إلى جانب قطر في الأزمة الخليجية، ما يعني احتمالية تحسنها أو على الأقل حلحلة تأزمها في حال حصلت المصالحة.
لكن ذلك يبقى احتمالاً، ولعله احتمال ضعيف. فالعلاقات المتوترة منشؤها الاختلافات الكبيرة في الرؤى والمواقف من مختلف قضايا المنطقة، والاشتباك غير المباشر في عدد من البلدان بما فيها سوريا والعراق وليبيا، ومردُّ ذلك كله إلى إرادة سياسية تسير عكس دوافع الواقعية السياسية والعقلانية في إدارة العلاقات.
ولذلك، فإن تخوف تركيا من أن تأتي المصالحة الخليجية المرتقبة على حسابها وحساب علاقاتها مع مختلف الأطراف، وفي مقدمتهم قطر، يبدو ذا وجاهة نسبياً. ففي المحصلة، تريد تركيا المصالحة الخليجية وتؤيدها، لكنها لا تريد أن تكون ضحيتها أو ثمنها، ولذلك في ما يبدو قدمت رسائل زيارتها في عدة اتجاهات ولمختلف الأطراف.