وبينما ينتظر الشعب السوداني من الحكومة الجديدة، أن تظهر "كرامات" برفع الأعباء عن كاهلهم، إذ باجتماع مشترك بين المجلس السيادي ومجلس الوزراء، استمر في انعقاد مستمر حتى صباح يوم الجمعة، وقد تمخض الجبل فولد قانوناً بالعزل السياسي لكل عناصر حزب الإنقاذ، بعد حل هذا الحزب، وعليه وجب على الناس أن يناموا نوما هادئاً، ويحلموا بأحلام سعيدة!
لقد عرفت الانقلابات العسكرية، التي رفعت لافتة الثورة، "العزل السياسي"، وهي "الوصفة الجاهزة" التي تم استيرادها من ألمانيا التي قامت بعزل الحزب النازي، واتخذت إجراءات من أجل تفكيكه ومطاردة عناصره، "بيت بيت.. زنقة زنقة"، الأمر الذي أعطى لهذا التصرف الجائز معنى حضارياً. فالدول الغربية عرفت "العزل السياسي" في مراحل التحول الديمقراطي، لكن كان هذا ما أخذناه من التجربة الألمانية، ولم نعتمد النظام الديمقراطي الذي أقيم هناك، وقد خشي عليه من أعداء الديمقراطية من بقايا النازية!
قطع دابر أحزاب الأغلبية
وقد استخدمت الانقلابات العسكرية في العالم العربي من قوانين "العزل السياسي"، أداة لتثبيت أركان حكمها الشمولي، ولقطع دابر أحزاب الأغلبية. وكان من تم عزلهم سياسياً، هم زعامات وطنية كبيرة، فكان العزل بعد انقلاب تموز/ يوليو 1952، من نصيب زعامات حزب الوفد ومن مصطفى النحاس إلى فؤاد سراج الدين. لكن قوانين العزل لم تمتد إلى عموم الناس، وإلى الزعامات المحلية التي انتقلت إلى العهد الجديد وتحولت إلى مؤسساته، فلم يكن للانقلاب العسكري بديل عنهم، ولم يكن في خطتها أن تعادي جميع الشعب المصري. وإذا كان الحكم الجديد قد رفع شعار رموز العهد البائد على كل من مارس السياسية قبله، فقد استعان برموز الصف الثاني منهم في مؤسساته الحديثة، سيد مرعي نموذجاً.
استخدمت الانقلابات العسكرية في العالم العربي من قوانين "العزل السياسي"، أداة لتثبيت أركان حكمها الشمولي، ولقطع دابر أحزاب الأغلبية
وبعد الثورة المصرية، ظلت قضية العزل السياسي تختفي ثم تظهر على السطح بحسب الأحوال، فالإخوان المسلمون الذين لم يكونوا متحمسين له، سرعان ما تبنوه عندما قرر اللواء عمر سليمان ترشيح نفسه، وجابهوا به الفريق أحمد شفيق، وبقانون متعجل أصدره البرلمان بأغلبيته الإسلامية وألغته المحكمة الدستورية، ثم خفت حماسهم له. وعندما تقرر الأخذ به في الدستور الجديد، كان هذا استجابة لمطالب الحلفاء في لجنة اعداد الدستور، ثم كان النص ركيكا ومعيباً؛ لأنه استهدف ألا يشمل شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، الذي كان عضواً في لجنة السياسات برئاسة جمال مبارك!
بيد أن
الإسلاميين لم يهتموا بفكرة عزل مرشحي الحزب الوطني في بداية الثورة، رغم تصدير الخوف من أن الفلول سيكتسحون الانتخابات في محافظات الوجه القبلي والصعيد. وكان رأيي أن روح الثورة وصلت إلى هناك، وبالتالي فلا خوف من أن يخذل "الصعايدة" الثورة. وثبت هذا بالنتيجة!
حل الحزب الوطني
وقام نفر ممن تربطهم علاقة بالأجهزة الأمنية بالتقرب للثورة وطلب حل الحزب الوطني (أحدهم متهم بتوريد شبيحة في يوم موقعة الجمل)، وقامت المحكمة الإدارية العليا بحله، بالمخالفة للقانون!
فبعد الثورات يحدث نزاع بين الشرعية الدستورية والشرعية الثورية، والأصل في المحاكم القائمة أنها تُعمل القانون، لكن محكمة القضاء الإداري برئاسة الوزير بعد الانقلاب العسكري مجدي العجاتي، تجاوزت الاختصاص المعقود لها قانوناً لصالح الشرعية الثورية!
كان رأيي أنه ينبغي ترك الشعب ليعزل الحزب الوطني، وأن ينتصر للثورة وينفي خصومها ممن أهدروا مقدرات الوطن، واستباحوا إرادة شعبه. فتاريخنا مع الشرعية الثورية لا يبشر بخير، عندما تستخدم كأداة لانتهاك حقوق الإنسان، وهو ما فعله العهد الناصري!
وقد جاء الربيع العربي لمواجهة الاستبداد، على عكس حركات ضباط الجيش في السابق، التي رفعت شعار التحرر الوطني. ولن نتطرق للتفاصيل حيث يكمن الشيطان!
عندما تكون الحرية ورفض الطغيان شعار ثورة، فلا يجوز أبدا أن يمارس القمع والاستئصال، كما حدث بقانون العزل السياسي في السودان
وعندما تكون الحرية ورفض الطغيان شعار ثورة، فلا يجوز أبدا أن يمارس القمع والاستئصال، كما حدث بقانون العزل السياسي في السودان، وإلا تكون الثورة قد استبدلت مستبدا بمستبد، ليظل الطغيان هو الحكم مع تغيير اسم ضحاياه.
نحن نعلم أن أزمة السودان تتلخص في أن تياراً سياسيا هو المهيمن على المشهد السياسي في السودان، وأزمته تتمثل في أنه يئس من وجود شعبية له بين الشعب السوداني. واليسار في عالمنا العربي يبدو أنه بلا مشروع، فمشروعه يقوم على أنه ضد الإسلاميين وفقط، دون أن تكون أمامه خيارات أخرى!
وإذ نجح في أن يمثل الثورة، فقد وجدها فرصة ليستأصل التيار الإسلامي باسم الثورة وبقانون العزل السياسي، الذي يستهدف به إقصاء تيار سياسي من أجل التمكين لنفسه، وباعتباره ساعتها سينافس نفسه، ليذكرني بحواري القديم مع أحد الإسلاميين السودانيين الذي أنكرت عليه أن ينحاز لحكم عسكري فاشل وفاسد في بلاده بحجة أنه يرفع شعارات إسلامية، فأين هو من الإسلام وأين الإسلام منه؟!
وسلم الرجل بوجهة نظري عن فشل نظام البشير وفساده، لكنه ذكر لي أن السودانيين يدركون أنه إذا سقط البشير فسوف يطفو على السطح تيار الاستئصال
اليساري، الذي لن يتأخر عن
استئصال الإسلاميين.. هكذا قال!
ثالثة الأثافي
قانون العزل هو في مواجهة جبهة الإنقاذ دون الحلفاء، وهو ضد المدنيين دون العسكريين، الذين هم في قلب السلطة الآن
إن الثورة السودانية قامت لإقرار حق الشعب السوداني في الاختيار، وباعتبار أن جبهة الإنقاذ مفروضة عليه بالقوة، وأن الانتخابات غير نزيهة، ومن هنا يكون الواجب هو تمكين الشعب من اختيار ممثليه في البرلمان وفي القصر الرئاسي. فإذا كان الاعتقاد السائد لدى تجمع المهنيين المهيمن على السلطة، أن جبهة الإنقاذ بعد ثلاثين سنة من الحكم الفاسد والمستبد، لديها قاعدة عريضة من الجماهير، ومن هنا لا بد من عزل عناصرها بالقانون، فإنها لعمري ثالثة الأثافي!
إن حكم البشير كان يقوم على دعامتين: الأولى مؤيدوه من القوى المدنية وتحالفاته السياسية، والثانية هي الجيش ومؤسسات القوة وباعتباره انقلابا عسكريا في الأصل. وقانون العزل هو في مواجهة جبهة الإنقاذ دون الحلفاء، وهو ضد المدنيين دون العسكريين، الذين هم في قلب السلطة الآن!
الفراغ السياسي باستئصال التيار الإسلامي تحت لافتة العزل السياسي لكل من له علاقة بالعهد البائد؛ سيستغله العسكر، ولن تستفيد منه التيارات المناوئة للإسلاميين
ويبدو تجمع المهنيين وقد يئس من إقامة تجربة رائدة في الحكم تجذب إليه الناخبين، فقرر الانشغال بالاستئصال السياسي للإسلاميين، حتى يخوض الانتخابات بمفرده وينافس نفسه، وهو هنا يثبت بدائية سياسية؛ لأنه لم يتعلم من تجارب الآخرين!
فالفراغ السياسي باستئصال التيار الإسلامي تحت لافتة العزل السياسي لكل من له علاقة بالعهد البائد؛ سيستغله العسكر، ولن تستفيد منه التيارات المناوئة للإسلاميين!
إن حل أزمات الشعب السوداني أولى من هذا العبث، حتى لا يكفر الناس بالثورة، ولن يصب كفرهم بها في خانة قضية التحول الديمقراطي.
إن اليسار العربي تحول إلى حالة نفسية تستوجب العلاج.. وتستلزم العزل؛ الصحي لا السياسي!