لم تكن عبير موسي إلا واجهة، لكنها كانت واجهة شفافة فاضحة، ولقد فضحت أنصارها ومحركيها بحركة واحدة لم تدم إلا وقتا وجيزا، وقد أعادت بوصلة المراقبين إلى قطبها. الفاشيون يتخفون داخل السيستام
ويحركون عبير الواجهة القاصرة المولية. لم يستغرق الأمر أكثر من أسبوع لنرى الجميع عراة مفضوحين.
لقد انكشف التحالف بين الأجنحة الفاشية في السيستام: جناح التجمعيين الظاهر في عبير، وجناح
اليسار الاستئصالي الكامن وله أنصار من غير اليسار الصريح الذي فشل في دخول البرلمان، فحرك التجمعيون حليفهم الأبدي ووسيلتهم في حربهم الخفية والظاهرة ضد
الإسلاميين. وقد فشلوا مرة أخرى وسنوضح.
عبير واجهة لليسار الفاشي
الوجه القانوني الحزبي الظاهر لعبير موسي هو الوجه التجمعي الذي يدافع عن تجربة الفاشية ودولة القمع، لكن الوجه الحقيقي هو الاستئصال السياسي الموجه ضد الإسلاميين أولا، وضد الديمقراطية التي سمحت لهم بالحياة، بقطع النظر عما إذا كانت حياة كريمة فيها حقوق مساوية لبقية المواطنين. انكشف الوجه الأول منذ الحملة الانتخابية، بل منذ تأسيس الحزب تحت حكم الباجي وجمع أشد الاستئصاليين في صفوفه، وخاصة الكثير من ضباط ابن علي المهزومين أمام الثورة. لكن الوجه الثاني ظل كامنا ولا يزال يتخفى، لكنه يستثمر في
عبير موسى ويدفع "نضالها" ضد الإسلاميين إلى مداه. فالطرفان أو الوجهان (التجمعي واليساري الاستئصالي) يلتقيان في الهدف وفي الوسيلة لمنع الإسلاميين من الحياة.
متابعة المواقف من خارج المجلس كشفت أن اللقاء حاصل، وأن صفحات التحريض اليساري كانت تدفع عبير إلى التمسك بموقفها وتعلن التضامن معها. وربما كان بعضها في مظاهرة الإسناد التي وقفت خارج البرلمان، بدعم مباشر من قنوات إعلامية خاصة وقفت دوما ضد الإسلاميين وضد الثورة ورذلت مخرجاتها، حتى أنها استعملت تقنية الفوتوشوب لتوهم بمظاهرة كبيرة تقف خارج البرلمان. كل الذين عجزوا عن دخول البرلمان عبر الصندوق وقفوا مع عبير في ثورته ضد رئيس المجلس ونوابه الذين لم تنادهم يوما باسمهم السياسي.
الفاشلون يركبون الفُرْكَة
يتوهم البعض في المِذْرَاة (الفركة) حصانا فيركبه فيبارك له الساخرون حصانه. وقد رأينا من يرى في عبير حصانا فركب وتوهم فروسية هذا أو هؤلاء. الركاب كثر في الأسماء وواحد في التوجه.. إنهم فيلق ابن علي الاستئصالي الذي خاض معركة تطهير
تونس من الإسلاميين لمدة نصف قرن وفشل، فبقي الإسلاميون واندثر هو. وكانت انتخابات 2019 هي إعلان موكب دفنه، لكنه يصر على التنفس بقصبة التجمع مرة أخرى، وأعني فصائل اليسار الفاشل.
لم يدخل هذا اليسار نزالا انتخابيا وفاز فيه، إلا إذا أفسد سبل الوصول إلى الصندوق، وهو يفعل ذلك دوما في النقابات ويحتكرها. لذلك، خير دوما التخفي في جسد حزب السلطة، فهي منظّر التجمع الذي يحكم من وراء ستار، بالنظر خاصة إلى أن التجمع كان ولا يزال تجمع جهلة مغرمين فقط بمغانم مادية، وليس له أي طرح فكري يعارض به أطروحات الإسلاميين (على خوائها).
خسر اليسار في 2011 فاشتغل عصا غليظة في اعتصام الرحيل حتى سقط الإسلاميون وفاز الباجي في 2014، فسكن اليسار الفاشل القصر يكيد للإسلاميين ويفكك جمعياتهم ويهاجمهم إعلاميا. وخاض نزالات 2019 وانكسر نهائيا، لكنه وجد في عبير صوتا عائدا من زمن سحيق، فوقف وراءها يدفعها إلى التطرف في فاشيتها وخسر مرة أخرى. فالفاشية عجزت عن إيقاف مسار العمل البرلماني، ولم تنل من اعتصامها غير نقمة قطاع واسع من الشعب التونسي ينتظر أن يتم مناقشة قانون الموازنة لتجد الحكومة القادمة وسيلة لتصريف الرواتب.
التخفي في جسد آخر هي تقنية اليسار التونسي (وربما العربي) منذ أول الثمانينيات والفشل في النزالات الانتخابية هو مصيره الدائم، لذلك وصل مرحلة الاعتماد على أمثال عبير موسى، وهي امرأة قاصر في فكرها وفي سياساتها، وليس لها إلا هدف وحيد الحرب على الإسلاميين (دون معنى آخر). ولأنها بلا هدف حقيقي خاص بها، فإن اليسار وجد فيها مركوبا جيدا لهدفه. فهي تؤدي المهمة هذه المرة في البرلمان بعد أن عجز هو عند دخوله. وهذا سر حملة التعاطف الإعلامي معها وسر الصفحات الكثيرة التي صورتها بصورة الضحية بحثا لها عن سند شعبي، لكن اللعبة انفضت سريعا.
لذلك فالمراقب يرى أنه بعد الرهان على الباجي بتجربة السياسية الكبيرة، ينتهي اليسار إلى الرهان على عبير، فيكون ذلك علامة على هزيمة أخرى تكمل هزيمة انتخابات 2019، وتؤذن بإغلاق حيل السكن في أجساد أخرى لتحقيق أهداف لم يحققها الوجود المباشر. فمن لم يقدر بنفسه لن يقدر بغيره. وقد صارت هذه قاعدة حكم في تونس، فكل من استعار جسم التجمع سقط معه.
انتهت الأجسام البديلة بعد أن عجز الجسد الأصلي عن حمل أصحابه وأفكارهم نحو السلطة. عبير الفاشلة آذنت بنهاية اليسار الاستئصالي، وفقدت في مسرحها الأخير كل قدرة على إخفاء اليسار تحت فستانها. إنها نهاية مزدوجة: الساكن والمسكون لم يفلحا في تحقيق هدفهما. لقد بقي الإسلاميون في مكانهم ويفاوضون على حكومتهم، واحتمال نجاحهم أكبر من احتمال فشلهم. وعندهم أمل (يظهر خاصة في برودة أعصاب زعيمهم) أن الذكاء الذي دفع إلى الاعتماد على عبير قد ضيع سبيله وفقد حجته.
النقاش تغير بعد حادثة البرلمان
ستكون حادثة مرجعية.. لم يعد لهذا الحزب من حجة. لقد صعد بسرعة ضد النهضة (الحزب الأول)، فانقلب الأمر عليه فوجد نفسه ضد الشعب التونسي برمته (طبعا أستثني بعد النواب الذين تظاهروا بالحياد ويتلذذون بهزيمة افتراضية للإسلاميين).
خرج النقاش من معركة تونس ضد الإسلاميين (كما أرادت عبير) إلى معركة تونس ضد الفاشية، ممثلة في عبير وحزبها وأنصارها داخل البرلمان وخارجه، وهؤلاء بالتحديد عليهم إضافة سطرين آخرين في كراس هزائمهم السياسية المتلاحقة؛ الأول أنه انحط بهم الدهر حتى اعتمدوا على عبير، والثاني أن عبير لم تفلح وسلمت وتستعد لصمت دائم تكتفي فيه براتب جزيل وبعض الصراخ القصير الأمد. لقد أصابها ما يصيب عدّاء مسافات طويلة انطلق سريعا ففقد النفس في أول السباق، وأصاب المستثمرين فيها ما يصيب المراهن على حمار في سباق خيول أصيلة.
لقد خسرت الفاشية معركة أخرى في وقت حساس جدا (داخل البرلمان وخارجه)، ومن سيراهن عليها لاحقا سيضع نفسه في مرمى الشعب التونسي الذي عرف أعداءه المستثمرين في عبير، أي المستثمرين في الفاشية، وما زال يفرز أصدقاءه بأناة وصبر، ولا نخاله إلا بالغا هدفه في القريب.
لقد تغير النقاش، فإما أن يكون المرء مع الديمقراطية واحترام المؤسسات وإدارة النقاش السياسي في كنف الاحترام رغم الاختلاف، أو الفاشية.