لا أنكر أنني عندما فكرت في تسجيل شهادة الشهود على سنة حكم الرئيس محمد مرسي، كنت أدرك أنني أقدم على مخاطرة وردة فعل عنيفة، ممن لا يريدون التفتيش في الدفاتر، حتى لا يضبطوا متلبسين بالفشل!
ففكرة الوقوف على ما جرى، ليست وليدة اليوم، لكنها كانت تراودني منذ وقوع الانقلاب العسكري، بيد أنني لم أجد الوقت والجهد الكافيين للقيام بهذه المهمة الشاقة. ودافعي مهني، والمعلومة ضالة الصحفي، كما أن دافعي إليها سياسي أيضاً، إذا كنا بالفعل جادين في الانتصار لثورة يناير، والعمل على إسقاط حكم العسكر، لمعرفة أين الأخطاء وكيف وقعت، حتى لا نقع فيها من جديد، فنكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا.
وكنت منذ البداية أدرك صعوبة المهمة، ليس فقط لأن عددا من الشهود المهمين في السجون، ولكن لعلمي أن كثيرين في الخارج سيعزفون عن الإدلاء بشهادتهم، لأنهم يعتبرونها تجربة وانتهت، ولا يريدون أن "يقلبوا المواجع". وقد يتضرر "التنظيم" من جراء ذلك، وهو مقدم عندهم على أي تجربة، وإذا خسروا السلطة، فإنهم حريصون على استمراره، فلا تهتز صورته في أذهان الناس برواية أو بموقف!
كلام كبير:
وقد مررت بتجربة ردة الفعل، عندما كتبت قبل ثلاث سنوات مقالي في هذا الموقع "
هل كان الانقلاب قدراً مقدوراً"؟ وشاركت في برنامج "كلام كبير" بقناة "مكملين" حول نفس فكرة المقال، وكنت فيه إلى جانب من رأوا أن الانقلاب لم يكن قدراً ومكتوباً على الجبين.
فقد كنت مقدماً على عمل، وأنا أعلم تماماً أنه لن يكون على الهوى، ولهذا فقد تفهمت كيف أن هناك من تهربوا من دعوتي لهم، مع "تقديم تسهيلات لهم"، فلم يكن خيار التسجيل "صوتا وصورة" هو الوحيد، فقد بدأ العرض من جانبي بلقاءات غير مسجلة، لأن العمل الذي أقدمت عليه هو الكتابة، وقد نشر حتى الآن منه سبعة عشر حلقة، تعمدت أن يكون تحقيقاً استقصائياً، الحلقة فيه معلقة تتجاوز الأربعة آلاف كلمة، وغاية جهد اللجان الالكترونية في القراءة، مجرد تغريدة، أو تويتة، لا أكثر من هذا!
ولأنه راعني بعد ظهور محمد علي أن القراء اهتموا به، فقد توقفت عن نشر الحلقات المكتوبة، منذ الحلقة السادسة عشر، ثم نشرت الحلقة التالية بعد أكثر من شهر، لتبدأ نشر الحلقات المصورة الخاصة
ببرنامج "الشهادة"، والشاهد هنا أن السؤال الأول الذي وجهته لعدد من الشخصيات هو السبب في عدم إقدام شهود العيان على الإدلاء بشهادتهم، للملمة أطراف هذه المرحلة. وكان الإجماع يكاد يكون منعقداً على أن من بين الأسباب هو الخوف من حملات الترهيب، لأن
الإخوان بصريح العبارة ضد التأريخ الجاد لأي محنة مروا بها، فلا شيء يقدم إلا المظلومية وما حدث في السجون من تعذيب وتنكيل والصمود في المقابل!
مع القرضاوي:
وأذكر في هذه المناسبة، أنني عندما قررت الهروب من الأوضاع القائمة إلى
التاريخ المسلي، وعقدت العزم على قراءة قصة حياة الشيخ القرضاوي، وإذ نحيت الجزء الأول والثاني منها إلى وقت آخر، وباعتبار أنهما قد يكونا خاصين بمرحلة الطفولة والقرية والتعليم الأساسي، وليس فيها ما يغري بالقراءة، فقد بدأت بالمجلد الثالث، وراعني أن الأمر لم يكن هروباً إلى الماضي، ولكن سقوطا في الحاضر، فالتاريخ يعيد نفسه. فقد كانت البداية مع محنة الإخوان في عهد عبد الناصر، التي تكررت مع القوم بعد
الثورة، وفي عهد الرئيس محمد مرسي!
لقد فُتحت النيران على "الشهادة"، لأن الجماعة تريد "الطابق مستوراً"، وإذا توقعت ردة الفعل، فلم أكن أعتقد أنها ستكون بهذه الشراسة، فكأنما دست على جرح غائر أحدث آلاماً مبرحة، ذكرتني عندما كنا صغاراً وعند الشعور بالآلام والطبيب يضمد جراحا ليس مسؤولا عنها، كيف كنا نشتم الطبيب لأنه العدو المسؤول عن هذه الآلام!
وكالعادة كان الاختباء خلف لجان الكترونية، من سوء الحظ في هذه المرة، أن هذا التشكيل يضم أسماء معروفة بانتمائها، وإن كان الأشرس هم التابعون من غير أولي الإربة. وقد سيقت ذرائع شتى تبرر رفض "الشهادة"، والطعن في الذمة الأخلاقية للشهود ومحاورهم، وكانت البداية في القول بأنه نبش في القبور، ومحاولة لتشويه الرئيس الشهيد، وما أطلق عليه أحدهم ضبابية الوقت، وعليه فقد أعلن البعض أنهم على استعداد لأن يفقدوا حياتهم دفاعاً عن الدكتور محمد مرسي!
وهي محاولة لخلق حالة عاطفية، تضيع خلالها الدوافع الحقيقة، وهي أنه لن يسمح لأحد بأن يتكلم. وهناك من أصابهم ما أصاب إخوة يوسف، فقد رأوا أنفسهم الأولى بالكتابة عن هذه المرحلة والتأريخ لها، وإذا كانوا لا يجدون الوقت الكافي لذلك، فعلى الجميع أن ينتظروا حتى يفرغوا!
قبل الوفاة:
ليس سراً أن هذه الشهادات انتهيت منها قبل
وفاة الرئيس محمد مرسي، ووفاته لن تغير من طبيعة الأمر أو تبدل لأنني كنت سأقدم على هذه الخطوة ولو بعد وفاته..
وليس سراً أن الشهود جميعهم ليسوا في السجون كما يردد البعض ضمن الحالة العاطفية المصنوعة، فهناك من هم في الخارج، وهناك من كانوا في السجون وخرجوا ولا يكترثون بشيء مما جرى، وكأنها مرحلة وطويت ولا يريدون تذكرها!
فاتهم أنها ليست تاريخ الجماعة، ولكنها جزء من تاريخ
مصر، ومن تاريخ ثورتها، التي هُزمت بهزيمة الحكم المنتخب، وخسرت مصر بما جرى ثمرة كفاحها ضد حكم العسكر، التي بدأت منذ سنة 1954، لا سيما في الجانب الاستبدادي منه، ودفعت أجيالاً كثيرة فاتورته.
وهذا فضلا عن أن الحديث عن وفاة الرئيس والنبش في القبور، وما إلى ذلك، يختزل الرئيس في مجرد شخص يخص جماعته أو أهل بيته، وليس رئيساً لجمهورية مصر العربية، فاز في أعظم انتخابات عرفتها مصر، وبالإرادة الحرة للشعب بعد استرداد إرادته بثورة عظيمة، سقط فيها شهداء وفقد فيها عدد من شبابها الكثير، ليعيشوا بعاهات مستديمة!
وأنا على ثقة من أن الحديث عن الوقت ليس مناسباً، هو ذريعة فارغة، فما هو الوقت المناسب لذلك، ولو أذيعت الشهادات العام الماضي لقيل إن الوقت غير مناسب، ولو بعد مئة عام لرفعت نفس الذريعة.. فمتى يكون الوقت مناسباً؟!
بين ناصر والإخوان:
إن العلاقة بين الإخوان وعبد الناصر لا تزال إلى الآن دون أن يتم التأريخ الجاد لها من قبل الجماعة، فلم نقرأ سوى حديث التعذيب، وما جرى من تضحيات في السجون، الدافع إليه هو عداء عبد الناصر للإسلام أو لدعوة الاخوان، ثم لا شيء بعد ذلك! لأن التأريخ لهذه المرحلة سيكون مؤذياً للتنظيم، وإن كان يمكن به الرد على كثير من الاتهامات في هدوء!
فعبد الناصر لم يكن عدواً للإخوان أو لدعوتهم، فهو أصلاً من الإخوان وقد بايع على المصحف والمسدس شأن كل عضو في الجماعة. والإخوان كتنظيم كانوا ضمن حركة الضباط التي قامت بالانقلاب العسكري، نكاية بالوفد، وأنهم كانوا معه كجبهة الإنقاذ مع السيسي، فالتحالف الأول كان ضد الوفد باعتباره حزب الأغلبية، والتحالف الثاني كان ضد الإخوان باعتبارهم حزب الأغلبية، وماركة الحليف القوي واحدة، فهو عسكري!
والإخوان أيدوا المحاكم الاستثنائية وعدم عودة الحياة النيابة وحل الأحزاب، وهي الإجراءات التي قامت بها الثورة، لكن عبد الناصر استدار عليهم كما استدار السيسي على حلفاء 30 حزيران/ يونيو واتخذهم عدواً.
وقد أضاع الإخوان دفعا مهما في الرد على خصومهم الذين يتهمونهم بالإرهاب، والدليل على ذلك وجود النظام الخاص، بسبب عدم الحرص على التأريخ لهذه المرحلة، والبعد عن الدعاية ضد عبد الناصر في اتجاه أنه عدو للإسلام أو لدعوة الإخوان!
إن عبد الناصر كان عضواً في النظام الخاص، الذي قام بكل الأعمال العنيفة مثل اغتيال النقراشي والقاضي الخازندار، وما إلى ذلك!
وعندما وقع انشقاق داخل الجماعة بعد حركة ضباط الجيش، كان جمال عبد الناصر منحازا للنظام الخاص ضد المرشد المستشار حسن الهضيبي، وبعد فصله لعدد من أعضاء الجماعة جاءوا لمركز الإرشاد وصالوا فيه وجالوا، وكانوا يدركون أنهم في حماية شرطة عبد الناصر!
ومن هنا كان الاحتماء في الدعاية العاطفية، لأنها ستعطي الأجيال الجديدة الحق في محاسبة القادة، وإن كانت مراجعتها بجدية ستحول دون الوقوع في نفس الأخطاء لتكرار الخطأ بإعطاء الأمان لعبد الفتاح السيسي، لمجرد أنه يصلي الفرض في وقته!
وعلى ذكر عبد الناصر، فإن كل الكتب التي أدانت عهده كانت بعد وفاته، ومنها "البوابة السوداء" و"سراديب الشيطان"، و"قالوا ولم أقل عن عبد الناصر" لعمر التلمساني، بجانب كتب لكتاب وصحفيين ومفكرين. بل إن المرشد العام الثالث للجماعة الأستاذ التلمساني كتب ضد السادات بعد اغتياله، ولم يقل أحد إن هذا نبش للقبور لا يجوز، وشهادة كان ينبغي أن تكون في مواجهة حي لا ميت، لنصل هنا إلى بيت القصيد!
فهل كان ما جاء في الشهادات نبشاً في القبور حقاً، وضد الرئيس محمد مرسي؟
ليطرح السؤال سؤالاً آخر: وهل شاهد شهود الزور برنامج "الشهادة"، أم أنهم تعلقوا في اسم الرئيس الشهيد بحثاً عن ذريعة عاطفية للتحريض والإسكات؟!
لقد صدر الأمر الإلهي بالتبين: "أن تصيبوا قوما بجهالة.."، فهل تبينوا؟!
إذن أجب على السؤال التالي:
ما هو المقطع الذي ورد في الشهادات وفيه إساءة للرئيس محمد مرسي؟!